حصار إيران وغزة .. التوحش الإمبريالي

05 ابريل 2020
+ الخط -
سوف تخضع منظومة القيم الدولية لمراجعة عميقة بعد انحسار وباء كورونا، ما من شأنه أن يفرز منظومة جديدة تختلف اختلافا نوعيا عما هو سائد قبل الجائحة وفي أثنائها. أول آثار هذه المراجعة سوف يطاول رأس الإمبريالية العالمية، لا سيما وأنه يقف على رأسها الرئيس دونالد ترامب، وهو أقبح تعبير عن هذه الإمبريالية. وتلحق بهذه الإمبريالية صنيعتها الصهيونية، والتي تتحالف معها قيما وسلوكا ووحشيةً. وعلى سبيل المثال، هل أتاكم حديث ما تسمى "صفقة القرن"، والتي استخدمت فيها لغة استعمار القرنين، الثامن عشر والتاسع عشر، حيث "أهدى" سيد الإمبريالية فلسطين كاملة إلى ما يسمّى "الشعب اليهودي" ويعلن أن ذلك "الشعب" اكتسبها بقوة القانون والتاريخ؟ أما الشعب الأصلي فلم ترد بشأنه كلمة واحدة عن "حقوقه"، بل يتمتع فقط بـ"ادعاءات" أو "هموم" أو "مطالبات" ليس إلا. حتى الرئيس الأميركي، مونرو، لم يستخدم لغة مماثلة، حين استعمر ما تعرف الآن ليبيريا، وشحن إليها "الزنوج الأحرار" (Free Negroes) في عام 1840. وأهدى سيد الإمبريالية وطنا كاملا، بكل ما فيه، إلى حركة استعمارية تقوم على مبدأ الأبارتايد، من دون أن تهتز فيه شعرة واحدة، ويستبيح مقدّرات شعب كامل، وتراثه وخيراته ومقوماته، من دون أن يصاب سيد الإمبريالية هذا بحرج، ويصفق له صنيعه، نتنياهو، كلما أجاد سيّده في اغتصاب وطن الآخرين. 
وتتجلى العقلية الإمبريالية في تصريحات رئيس وزراء بريطانيا، بوريس جونسون، الذي يبشر شعبه بأن الوباء الذي يجتاح بريطانيا سوف يخفّض عدد المسنين الذين اعتبرهم حمولة زائدة، بينما سوف يتّمتع الباقون بالمناعة، وهذا ما أطلق عليه "مناعة القطيع". هكذا يفكر رموز الإمبريالية، لا سيّما وهي أقدم الإمبراطوريات وأكثرها دهاء وحيلة في الانقضاض على شعوب المُستعمرات واقتناص ثرواتها.
وإدراكا لكُنه هذه العقلية، فإن المناشدة الأخلاقية والاستنجاد بمقولات حقوق الإنسان سوف لا 
تُجدي فتيلا، ذلك أن المُناشدة لا تقع على آذان صاغية، فالمعيار عندها هو القيمة المادية للإنسان. ومن هنا، كان الردّ الايراني على استعداد الولايات المتحدة لتقديم معونات إنسانية لإيران لمواجهة أزمة كورونا واقعا في صميم ردّ إيران على الإدارة الأميركية، ويُعبّر عن تمسّك الحكومة الإيرانية بكبرياء شعبها، وحقّه الشرعي في المُطالبة برفع الحصار الخانق عنها. لم تطلب إيران معونةً أو استجداء أو نجدة لمواجهة الجائحة، بل تطلب الإفراج عن أموالها الخاصة، والتي جمّدتها الولايات المتحدة، وما زالت تُجمّدها من دون وجه حق، وبالمخالفة للقانون الدولي. والولايات المتحدة في الواقع تُعاقب إيران على إخلال الولايات المتحدة نفسها بالتزاماتها الدولية، وانسحابها من الاتفاق النووي.
سياسة الحصار الذي تُمارسه الولايات المتحدة ضد بعض الأقطار، مثل إيران وكوريا الشمالية وسورية وفنزويلا، على سبيل المثال، نوع من العقوبة الجماعية، وهذه عقوبة محرّمة تحريما صريحا وشاملا في القانون الدولي، ذلك أن آثار هذا الحصار تقع على المدنيين الذين يوجب القانون الدولي حمايتهم في أوقات الحرب وفي أوقات السّلم على حد سواء (المادة 4 من اتفاقية جنيف الرابعة). سياسة الحصار أداة تقصد بها الولايات المتحدة أن تُجبر الحكومة المستهدفة على الاستسلام لمطالب سيد الإمبريالية، ولم يسبق أن نجحت مثل هذه السياسات في الماضي. الإصرار على الاستسلام هو تعذيب للمدنيين، وحرمانهم من أبسط مقوّمات الحياة والدواء والغذاء، وهنا علينا أن نستعيد الحصار الذي فُرض على أهلنا في العراق فترة طويلة.
سياسة الحصار في القانون الدولي هي أيضا من أشكال "الجريمة ضد الإنسانية"، كما عرّفها ميثاق روما، والذي أقيمت على أساسه محكمة الجنايات الدولية. وقد عدّدت المادة السابعة الأفعال التي تشكّل جريمة ضد الإنسانية، ومنها الفقرة ح التي نصّـت على أن أي اضّطهاد لـ"مجموع محدّد من السكّان لأسباب سياسية.. أو لأسباب أخرى من المُسلّم عالميا بأن القانون الدولي لا يجيزها..". والقانون الدولي لا يُجيز أي إجراءٍ من شأنه أن يؤدّي إلى اضطهاد السكان المدنيين بأيّ شكل. وقدّ توسع ميثاق روما كثيرا في تعداد حالات تشكل "جريمة ضد الإنسانية" مما يقطع بأنها تشمل حالات الحصار، كالذي تفرضه الولايات المُتحدة على إيران وغيرها، حيثُ إنها تستهدف المدنيين، لتحريضهم على حكومتهم والانقلاب على سياستها.
معاناة إيران من جائحة كورونا حقيقية وخطيرة، ما يُوجب الإفراج عن أموالها، لتمكينها من 
شراء المُستلزمات والمعدّات الطبية وتجهيز مُستشفياتها في مواجهة الوباء. وسوف يؤدي حرمان إيران من الوصول إلى أموالها، وتمكينها من التصدّي لهذا الوباء، سوف يؤدّي ليس فقط إلى عذابات عميقة في أوساط المدنيين، بل تشكل عناصر لجريمة ضد الإنسانية. ومن الجدير ذكره، أن الخليفة عُمر بن الخطّاب، وفي سابقة قضائية ذات مغزى ومدلول عميقين، قد قضى في حالة أقرب ما تكون إلى الجريمة ضد الإنسانية، حيث ورد أن مرّ رجل في يوم قائظ بدار أحدهم، وطلب ماءً يُطفئ به عطشه، وكان الجو حارا، فمنعه أهل الدار، فوقع ميتاً. وعلم الخليفة عُمر فأمرهم بدفع دية المتوفي، إذ اعتبر ذلك جريمة قتل غير متعمّد، وهو من أشكال الجريمة ضد الإنسانية، ذلك أنه افترض أن حرمان الرجل من الماء في ذلك اليوم القائظ يرقى إلى مرتبة القتل غير العمد.
وما قيل في إيران بشأن تطبيق مبادئ القانون الدولي يُقال في قطاع غزة وتنطبق عليه، بل هو أشدّ وقعاً، ذلك أن إيران ما زالت تملك مصادر معيشتها، على الرغم من حصارها، وما زالت مفتوحة على جيرانها، بينما قطاع غزّه هو، كما قيل بحقّ في وصفه، "أكبر سجن في الهواء الطّلق يضمّ مليونيّ سجين"، فلا يزال يعاني من حصار استمرّ ثلاثة عشر عاما، ويعيش آثار ثلاث محارق (هولوكوست). وعلى الرغم من ذلك كله ومن أنه ما زال تحت الاحتلال الإسرائيلي، القطاع صامد يرفض الاستسلام، وواجب سلطة الاحتلال القيام بحماية السكّان المدنيين فيه، غير أن إسرائيل تصر على عدم مسؤوليتها عن هذه الأرض المحتلّة، وهي التي كانت تتحكّم في مقدار الغذاء المخصص لكل فرد في القطاع، لكي تبقي على أهاليه في وضع يكون قريبا من خط سوء التغذية، أي أنها كانت تتحكّم في عدد السعرات الحرارية التي يُسمح بدخولها إلى غزة. وجائحة كورونا مخيفة لقطاع مُحاصر فترة طويلة، ومحروم من التجهيزات الطبية، إلى درجة أنه لا يملك أكثر من 1.3 سرير لكل ألف مريض، وهذا يُنذر بجائحة خاصّة.
القيادة الفلسطينية مطالبة بحشد الضغط الدّولي، لكي ترفع إسرائيل هذا الحصار، وأن تطالب بقوّة بالإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، قبل أن تجتاحهم كورونا في سجون هذا العدو المتوحش.
B5EDC405-262D-42F2-B033-214788D28B72
B5EDC405-262D-42F2-B033-214788D28B72
أنيس فوزي قاسم

خبير فلسطيني في القانون الدولي، دكتوراة من جامعة جورج واشنطن، رئيس مجلس إدارة صندوق العون القانوني للدفاع عن الأسرى الفلسطينيين

أنيس فوزي قاسم