حسين إبراهيم: غربة رجل وفداحة حرب

17 ديسمبر 2019
يكشف العمل مزالق السلطة ومآلات الوطن (Imdb)
+ الخط -
في "سلسلة اختفاءات وعلاقات غير مريحة" (لبنان، 2018، 15 دقيقة)، لا تستهوي المخرج اللبناني حسين إبراهيم، كأبناء جيله، فكرة التعبير عن الذات ومشاغلها، فيَلج فضاءات واقعية/ متخيّلة، وعوالم أكبر للحلم بالتعبير، وللرغبة فيه، حيث الذات غير معزولة عن العالم، بل متلاحمة ومتشابكة معه، ومع قضايا الحرب والتاريخ والذاكرة والتحرّر من ديكتاتوريات قمعية.

يُعبِّر إبراهيم عن هذا كلّه بألم وجرح غائر في الجسد، يكشف ويعرّي، بشكل خفي، مزالق السلطة ومآلات الوطن، بعد حرب غير منتهية، هسيسها في أجساد الأفراد، بما أحدثته من شروخٍ وآلام، وهؤلاء حريصون دائما على تدوين حكاياتهم، عبر لغة سينمائية جارحة، ونَفسٍ تخييلي يُعيد بناء عوالم المرحلة الحرجة، بمساراتها وانفعالاتها واهتزازاتها.

مع حسين إبراهيم تصبح الكاميرا أداة تكريسٍ للنضال، وكشفٍ للمخبّأ، وتعرية للمكشوف بتفاصيله ونتوءاته. هذا ما تُستّر الدول عليه بآليات وذرائع شتى، كجرح الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، غير المندمل بعد، رغم مرور 30 عاما على نهايتها. فطيفها المرعب يخامر أبناءها، اعتقالا واختفاء وقتلا وتنكيلا وتهجيرا لآلافٍ منهم. والمطالبة بكشف مصائر مختفين/ مغيّبين قسرا مستمرّة أعواما طويلة، عبر أفلام وثائقية تضغط على الجرح، لعلّ أصدقاءهم وأفراد عائلاتهم يعرفون مصائرهم تلك.

الذاكرة اللبنانية للجيل الجديد قوية، وغير معرّضة للنسيان، كما عبّر عنها حسين إبراهيم في فيلمه هذا، المُشارك في الدورة الـ17 (30 سبتمبر/ أيلول ـ 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة" (المغرب). فالفيلم شكّل نقطة ضوء بين الأفلام العربية المعروضة، بشهادة متابعين للشأن السينمائي. ورغم عدم حصوله على جائزة، استطاع النفاذ إلى قلوب المشاهدين، علما أنّ أفلاما مغربية قصيرة تلته مباشرة، كشفت عن مواضيع ضعيفة، ومعالجات سينمائية هزيلة.
يروي فيلم حسين إبراهيم حكاية زاهي، العائد إلى بلده لبنان بعد أعوام طويلة أمضاها في الغربة، لترتيب جنازة والده المخطوف والمختفي خلال الحرب الأهلية. يصطدم زاهي بواقعٍ جديد لم يعرفه قبلا، فتزداد الغربة أمام الذات والأصدقاء والواقع المتغيّر، فيقع في مأزق حقيقي تجاه الوطن، بسبب فداحة حربٍ غير منتهية، لا يزال جرحها غائرا في جسده، رغم أنها لم تمحِ حبّه لوالده، فيلجأ إلى الصور لنسج أحلام، لعلها تخفِّف من حدّة الذاكرة وجرحها. لكنّ مشهد الاحتفال في الليل يخيفه، ويؤجّج فيه نار الذاكرة، ويرفع منسوب الجرح في العينين، فيضيق به الجميع، أصدقاء وأفراد عائلة، كما العالم والذات، ليغدو سرير الفندق وطنا بديلا وملاذا آمنا، جراء واقع جديد ملغّز لا يفهمه.
تتقاطع الأحداث والشخصية الرئيسية مع "هُم الكلاب" (2013)، للمغربي هشام العسري، الذي يروي قصّة رجل اعتقل عام 1981، بسبب "انتفاضة الخبز". يُفرَج عنه عام 2011، أثناء الربيع العربي، و"حركة 20 فبراير" المغربية، فيجد الرجل نفسه أمام مغرب آخر، وحراك سياسي متعدّد الأوجه والخلفيات والدوافع الرئيسية المحرّكة له.

تتشابه حكايتا العسري وإبراهيم، لكن تختلف المعالجتان إحداهما عن الأخرى. ففي "سلسلة اختفاءات وعلاقات غير مريحة"، لا يحتلّ التاريخ شكلا مركزيا، فهو يعمل بشكل خفي على الدفع وتوليد الأحداث والمشاهد واللقطات والحساسيات تجاه السلطة، ما يجعله مندرجا في "سينما ما بعد الحرب"، ما يجعل طبيعة المعالجة تختلف إزاء حدثٍ تجاوز عمره 35 عاما، لتصبح اللغة أهدأ، والصورة تلتقط أنفاس الحرب وتأثيرها في البناء السيكولوجي للأفراد. فزاهي مصدوم بفقدان والده، لا العكس، كما في "هُم الكلاب" للعسري، وفي أفلام روائية ووثائقية لبنانية، تناولت الموضوع نفسه في راهنه، بلغة مباشرة، همّها الأساسي الحدث بحدّ ذاته، لكنها نجحت بشكل كبير، لجرأتها في نقل الحدث وخصائصه الجمالية النوعية، كما عند السينمائي اللبناني الراحل مارون بغدادي، الذي تُشكّل أعماله علامة فارقة في تاريخ السينما العربية، لكونها وثيقة تشهد على الجرح والألم اللذين يُعانيهما اللبنانيون منذ الحرب الأهلية. أعمال تتجاوز المحليّ والوطني، إلى فضاء كوني، يلتقي فيه التحرّر والنضال بقيم الإنسان وحقوقه.
المساهمون