حرب 48 بعيون إسرائيلية (2/2)

21 مايو 2020
+ الخط -
مع أن دور الطيارين اليهود القادمين من أميركا وغيرها، كان العامل الحاسم في تحقيق إسرائيل لنصر غير متوقع ضد الجيوش العربية التي زحفت عليها في حرب 1948، إلا أن إسرائيل خلال احتفالاتها بالنصر، لم تعلن عن هذا الدور الخطير، وحرصت على إبقائه طي الكتمان لسنوات طويلة، ليس لأنها كانت حريصة على ألا يتم اعتقال الطيارين حين عودتهم إلى بلادهم التي تمنع قوانينها الالتحاق بجيوش دول أجنبية، ولكن لأن اسرائيل شعرت كما يكشف الفيلم، أن حالة النشوة بالانتصار ستبوخ إذا عرف الرأي العام أن النصر تحقق بسواعد أجنبية، حتى لو كانت يهودية، ورأى قادتها أن من المصلحة العامة أن يظن المواطن الإسرائيلي أن دولته الناشئة تمتلك سلاحا جوياً صاعداً تمكن من دحر الأعداء العرب، حتى أن أول رئيس لدولة اسرائيل ديفيد بن جوريون حين تحدث في خطاب عام مشيداً بدور أولئك الطيارين، لم يذكر أي تفاصيل عنهم، وقال فقط إن فرقة الطيارين تلك، والتي أطلق عليها اسم (المخالب) كانت هدية يهود الشتات من أجل إنشاء دولة اسرائيل، لكن كل الطيارين الذين التقى بهم الفيلم، وبعضهم مات قبل أن يكتمل انتاجه، لم يكونوا مستائين من ذلك التجاهل، بل كانوا متفهمين تماما لأسباب تكريمهم في السر، لأنهم ذهبوا إلى تلك المهمة باقتناع كامل واستعداد للتضحية بحياتهم، ولذلك فقد ظلوا طيلة عمرهم منتشين بذكريات انتصارهم الساحق على القوات العربية التي كانت تمتلك من خلال وسائل إعلامها صورة متضخمة غير متسقة مع واقعها الهزيل.

في لقاءاته مع خمسة من الطيارين الذين شاركوا في العمليات وهم (ليون فرانكيل ـ هارولد ليفينجستون ـ جورج ليختر ـ كولمان جولدشتين ـ ليو لينارت) يقدم الفيلم صورة مهمة للطريقة التي تم إعداد الطيارين نفسيا لكي يشتركوا في هذه المهمة في وقت قصير، ليكشف الطيارون أن اسرائيل لم تنتظر قيام الحرب عليها لكي تلجأ إلى استقدام الطيارين، بل خططت لذلك قبل أن يعلن بن جوريون قرار إنشاء دولة اسرائيل، لأن قيام العرب بمحاربتها كان متوقعا، ولذلك فقد لجأت إلى فكرة الاستعانة بالطيارين اليهود المتقاعدين أينما تيسر الوصول إليهم، ومع أن حياة هؤلاء كانت رغيدة ومتيسرة في ذلك الوقت، إلا أنهم لم يترددوا في تلبية الدعوات التي وجهت لكل منهم على حدة في سرية تامة، وطلب من كل منهم أن يحضر معهم أوراقا رسمية تثبت كونه طيارا حربيا في السابق، ليتجمع الفوج الأول في فندق في نيويورك ويتم إبلاغهم بفكرة المهمة التي تم استقدامهم من أجلها.

تجاوب الجميع مع العرض، لكن كل طيار منهم كان له مدخله الخاص للاقتناع، ليون فرانكيل قال إنه لم يكن ليسامح نفسه لو تباطأ عن إنقاذ بني دينه وأنه لن يترك أحداً يمنعه عن ذلك، هارولد ليفينجستون الأقل تديناً قال إنه وجد إثارة شديدة في فكرة أن يقوم اليهود بالقتال بعد أن ظلوا مقموعين دائما، في حين قال كولمان جولدشتين إن ما جعله يحسم قراره بالمشاركة هو ما سمعه من كلام يتردد نسبة إلى المسئولين العرب عما سيفعلونه باليهود في حالة انتصارهم في الحرب، فيما تحدث جورج ليختر وليو لينارت عن شعورهما بأن سلاح الطيران سيكون السبيل الوحيد لكسر التفوق العددي الساحق للجيوش العربية، خصوصا أنها كانت قد سبقت بتشكيل أسلحة للقتال الجوي لم تكن تمتلكها اسرائيل، ولذلك قرر الجميع المشاركة، حتى وهم يعلمون أنهم سيحاربون بطيارات متهالكة، بعضها تم تهريبه من أميركا، وبعضها تم شراؤه من مخلفات سلاح الجو الألماني التي تركها الألمان بعد هزيمتهم مستقرة على أرضيات مطارات تشيكوسلوفاكيا.


يروي ليون فرانكيل أنه حين بدأت التدريبات على ركوب الطائرات قبل سفرها إلى إسرائيل، وجد نفسه في أول جلسة تدريب يدخل طائرة ألمانية، وهو يرتدي بدلة طيران رسمية ألمانية وخوذة كانت لطيار ألماني وباراشوت ألماني، وكانت تلك مفارقة بالنسبة له كيهودي قتل الألمان أهله في جحيم الهولوكوست، ومع أن العدو هذه المرة كان مختلفا، إلا أن شبح الهولوكوست ووقائع المعاناة اليهودية كانت حاضرة في وجدان الطيارين بقوة، لدرجة أنهم جميعا وهم يتحدثون عن مشاركتهم في المعارك، يقولون إنهم كانوا يتخيلون مشاهد أفران الغاز ويستحضرون قصص معاناة اليهود عبر العصور، مما جعلهم يؤدون حركات خطيرة أثناء قصفهم للقوات البرية المصرية، لدرجة أن أحدهم يروي بفخر شديد كيف قام بأداء حركة قتالية خطيرة قلب فيها الطيارة رأسا على عقب، لمجرد أن تصويبه للنيران في هذه الحركة سيؤدي لإيقاع خسائر أكبر، دون أن يفكر في خطورة ذلك على حياته، ولتكتمل فرحة الطيارين وفخرهم بما فعلوه، حين رأوا كيف ازداد توافد المهاجرين اليهود من أوروبا على إسرائيل بعد انتصارها في الحرب، وكيف أخذ المهاجرون يقبلون أرض دولتهم الجديدة، ليشعر الطيارون أنهم أدوا ما عليهم من دين تجاه أولئك الذين عانوا من النازية والفاشية، ولم يتمكنوا فقط من فرض واقع جديد يخلق مستقبلا أفضل لأبناء وطنهم، بل وتمكنوا من الانتقام من الماضي الكريه أيضا، حتى أن هارولد ليفينجستون الذي اعترف أنه لم يكن متدينا، والذي عاد بعد انتهاء المهمة إلى أمريكا حيث عمل ككاتب سيناريو في هوليوود، اعتبر أنه فعل عملا طيبا لأول وآخر مرة في حياته، وأن هذا جعله يعيش راضيا طيلة عمره، ولك أن تتخيل كيف كانت مشاعر زملائه المتدينين الذين قالوا إنهم بكوا حين رأوا أرض الميعاد من الجو.

تم تصوير الفيلم في إسرائيل والولايات المتحدة وإنكلترا، وقد تمت إعادة تصوير مشاهد قتال الطائرات التي يتضمنها بشكل متقن، باستخدام طائرات من نفس الموديل، تم تصويرها وهي تقوم بطلعات جوية فعلية، ثم تم تركيب تلك المشاهد باستخدام المؤثرات الخاصة، لتظهرها في مشاهد الاشتباكات مع الطائرات الأردنية والسورية والمصرية، ومزج تلك المشاهد بأصوات الطيارين الحقيقيين وهم يتحدثون عن ذكريات تلك الطلعات الجوية التي فقدوا فيها بعض زملائهم، بالإضافة إلى مؤرخ يتحدث عن الخلفية العسكرية لحرب 1948 من وجهة نظر منحازة لإسرائيل بالطبع، فيما حرص الفيلم على استضافة القيادي الإسرائيلي الشهير شيمون بيريز الذي كان لا يزال رئيسا لإسرائيل وقت تصويره مع الفيلم، ليكتمل بظهوره الطابع الدعائي الصهيوني للفيلم، الذي يتوجه لجمهور يعرفه جيدا، وليبدو الفيلم متسقا مع قيام الحكومة الإسرائيلية في نفس وقت عرض الفيلم بإقرار قانون (اسرائيل ـ دولة القومية للشعب اليهودي) لتقديمه إلى الكنيست الإسرائيلي، لتأكيد الطابع والهوية اليهودية للدولة، لاستخدام ذلك في تمرير المزيد من القوانين العنصرية والتمييزية ضد العرب الفلسطينيين الذين رضوا بالهم، واختاروا حمل جنسيتها بدلا من التشرد في المنافي.

شاهدت الفيلم في نيويورك وسط جمهور يدرك رسالة الفيلم جيدا ويحتفي بها ولا يجد فيها أي غضاضة، لو كنت حضرت عرضه معي في تلك القاعة المكتظة عن آخرها، لشاهدت كيف تشهق بعض المتفرجات استياء حين يقول الفيلم أن أحد الطيارين الأميركان المشاركين في تلك الحرب تم اعتقاله بعد عودته إلى أميركا لأنه خالف القانون، وقضى عقوبة السجن لمدة سنوات، وكيف عبرن عن غضبهن من ذلك بوصفه عارا على الولايات المتحدة، دون حتى أن يشفع لحكامها أنهم لم يدخروا وسعا بعد ذلك في دعم اسرائيل بجسر جوي في حرب 1973 كان له أبلغ الأثر في تغيير نتائج الحرب، وهو ما عرض له فيلم إسرائيلي وثائقي آخر هو فيلم (رؤساء الوزراء) الذي تحدثنا عنه من قبل، ولكنت قد شاهدت كيف تعاملت قاعة العرض باحتفاء غير عادي مع منتجة الفيلم نانسي سبيلبيرج التي لم تقم مندوبة المهرجان بتوجيه أي أسئلة نقدية لها تتضمن ملاحظات على الفيلم، بل قامت باحتضانها بحرارة شديدة، ليتحول اللقاء القصير الذي تم عقده مع المنتجة عقب عرض الفيلم إلى لقاء احتفالي، زاده حرارة وجود طيار عجوز من الذين شاركوا في الحرب، والذي حضر مستندا على أبنائه وأحفاده، وصفق له الجمهور بحفاوة شديدة، لأقول مازحا لصديقي حسام بهجت وقد بدا جليا لمن حولنا أننا الوحيدان الذين لم نصفق طيلة الوقت، إنني لم أكن أتصور أنني سأعيش مشاعر رأفت الهجان في مشهد الرقص الشهير الذي يجسد فيه محمود عبد العزيز باقتدار مشاعر الهجان المتضاربة عقب إعلان خبر نصر إسرائيل في 1967.

بالطبع، أصبح قديما وبايخا ومهينا، عندما نتحدث عن أعمال فنية تناصر المشروع الصهيوني بقوة، أن نسأل عما فعلناه نحن كعرب، بكل ما نملكه من وزارات إعلام تستخدم المليارات المرصودة في ميزانيتها لنشر الكذب والدجل والنفاق والانحطاط، فمشكلتنا للأسف صارت أعمق من مجرد أن نقوم بإنتاج أعمال فنية تتحدث عن بطولات مقاتلينا في الحروب التي قمنا بخوضها مع اسرائيل، لأننا نحتاج أصلا إلى أن نعرف ما الذي حدث فعلا لنا ولقواتنا المسلحة في كل حروبنا مع اسرائيل، فلا يمكن أن تُبنى قراءة سليمة لمستقبل صراعنا مع اسرائيل، إلا على حقائق واضحة عن تاريخ صراعنا معها.

خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر حرب 1948 التي يتحدث عنها هذا الفيلم، والتي بقي منها في الوجدان العربي حقيقة رسخت لها أجهزة إعلام ثورة يوليو، وهي أن جيوشنا العربية كانت مستعدة لسحق إسرائيل بالكامل، لولا أن تآمر الملوك العرب الفسقة على الجيوش، واشتروا لها أسلحة فاسدة انفجرت في الجنود وهم يحاربون فخسرنا الحرب، مع أن كثيرا من المؤرخين المرموقين ينفون أسطورة الأسلحة الفاسدة، وينفي آخرون أن يكون تأثيرها بالحجم الذي تم الحديث عنه، ويعتبرها هؤلاء وأولئك مجرد خبطة صحفية ناجحة قام بها إحسان عبد القدوس، واستثمرتها ثورة يوليو عقب نشأتها لإضفاء مشروعية على توليها الحكم، قبل أن يتعرض إحسان نفسه للتنكيل لاحقا.

لا يتسع الوقت لاستعراض كل ما ثار من جدل حول هذه القضية، ولكن تكفي الإشارة إلى كتابين صدرا منذ سنوات طويلة في سلسلة (تاريخ المصريين) الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، الأول بعنوان (الأسلحة الفاسدة ودورها في حرب فلسطين) للدكتور عبد المنعم الجميعي، والثاني بعنوان (ثورة يوليو والحقيقة الغائبة) والذي يقدم شهادات من اللواء مصطفى عبد المجيد نصير واللواء عبد الحميد كفافي واللواء سعد عبد الحفيظ والسفير جمال منصور. لكن تبقى المشكلة في وجود هذا الجدل مقتصرا على كتب الدراسات التاريخية التي لا يصل إليها إلا المتخصصون، وهو ما يجعل الصورة الشعبية السائدة عن حرب 1948 وغيرها مشوشة وضبابية، ولذلك لم يكن مفاجئا حتى على من قرأ بعض الكتب عن حرب 1948 مثل حالاتي، أن يفاجأ بحقيقة ضعف وعدم كفاءة قواتنا المسلحة في ذلك الوقت، لدرجة تجعلها تتعاون بحسن نية مع طائرة قادمة لضرب قلب العاصمة المصرية، ولأكتشف من خلال البحث فيما توفر من مصادر، أن هناك تعتيما شديدا على واقعة خطيرة مثل هذه، يكشف أن من تولوا وسائل الإعلام منذ ذلك الوقت، اعتبروا أن كتمان الحقيقة سيكون في مصلحة الشعب المصري، وهو ما تكرر بعدها في حرب 1956 التي قررت وسائل الإعلام في لمح البصر أن تحولها من عدوان ثلاثي إلى نصر ساحق لعبد الناصر، ولذلك لم يكن غريبا أن نصل بعدها إلى هزيمة 1967، ولا أن نعرف حتى الآن الصورة الكاملة لما حدث بعد العبور المجيد في 1973 من تفريط سياسي أدى إلى أن تفقد مصر سيادتها الكاملة على سيناء.

في النهاية، يبقى مؤسفاً أن نتذكر أن اسرائيل قامت بالتعتيم على بطولات من استقدمتهم من طيارين يهود لمناصرتها، لكي تقوم برفع معنويات شعبها، ثم قررت في الوقت المناسب أن تقوم بإظهار هذا الدور والاحتفاء به، أما نحن فعندما نستمر في التعتيم على هزائمنا وخسائرنا، لا نفعل ذلك إلا لمساندة حكامنا السابقين والحاليين واللاحقين ومساعدتهم على الإفلات من المسئولية أو حتى اللوم، ليظلوا في أذهاننا في صورة حماة البلاد والمنتصرين للعباد، وفي الفرق بين الموقفين يكمن جوهر النكبة التي لم نفارقها منذ 1948 حتى الآن.

...

ـ فصل من كتابي (فيتامينات للذاكرة) الصادر عن دار الشروق والذي تصدر طبعة جديدة منه قريبا بإذن الله ـ
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.