في أزقّة القدس القديمة، وحين اشتعال المواجهات مع جنود الاحتلال، أن يقوم أحدهم بتكسير كاميرا مراقبة، فذلك ليس بالأمر العابر، بل فعل نضالي يستهدف قهر أداة الاحتلال الإسرائيلي في مراقبة الفلسطينيين وملاحظتهم.
في تلك الأزقة المليئة بقصص التاريخ، لا تقتصر المعالم على ذلك البيت المملوكي أو على سبيل المياه العثماني. فالكاميرات هي معلم آخر من معالم المدينة، لا بد أن عينك لن تخطئها.
كاميرات تُسجّل حركتك، وتشتبه بأي خطوة لا تروق لها. ليس غريباً إذاً أن تسمع في بعض التظاهرات والاشتباكات مع جنود الاحتلال، "الحجّات" المقدسيات يحذّرن الفتية من أن هناك كاميرا مخفية فوق روؤسهم ترصدهم وهم يلقون الحجارة على جنود الاحتلال.
تنتشر هذه الكاميرات، المقدّر عددها بالمئات، في الكثير من أحياء القدس المحتلة، وبالأخص في البلدة القديمة وفي سلوان، جنوبي المسجد الأقصى، حيث تتركز عمليات الاستيطان بين بيوت الفلسطينيين.
وتدعي سلطات الاحتلال أن سبب نصب هذه الكاميرات هو توفير الحماية لأفراد الشرطة وللمستوطنين المارّين في تلك الأحياء والقاطنين في بيوتها، عبر رصد تحركات الفلسطينيين وتفاعلاتهم.
كما أن هذه الكاميرات تكون في كثير من الأحيان السبيل والدليل الوحيد الذي توفره شرطة الاحتلال لإدانة أطفال أو شباب مقدسيين أمام محاكم الاحتلال، حين تفشل في توفير أدلة أخرى، إذ غالباً ما يقوم المحققون الإسرائيليون بتهديد المعتقل بأن لديهم تصوير فيديو يثبت تورطه بأعمال ضد إسرائيل، لإجباره على الاعتراف.
إلا أن هذه الكاميرات التي توفر سبل إدانة للفلسطينيين، لا يتم الالتفات إليها حين تكون التهمة موجهة للمستوطنين. في حي الشيخ جراح المستهدف بالاستيطان، مثلاً، قام أحد القاطنين فيه، والذي زرع كاميرات أمام منزله لحمايته من اعتداءات المستوطنين، بتسليم شرطة الاحتلال فيديو يظهر وجوه أفراد من تنظيم "جباية الثمن" الاستيطانية، وهم يقومون بخط شعارات عنصرية في الحيّ ويعطبون إطارات السيارات، إلا أن الشرطة لم تحرك ساكناً ولم تفتح تحقيقاً في الأمر.
في المقابل، يقول محمد شماسنة، أحد سكان الحي، لـ"العربي الجديد"، إنه "لو كان المعتدى عليه يهودياً، فإن الشرطة تقوم بالاستيلاء على سجل الكاميرات الشخصية للسكان للوصول إلى ما تريد". ويذكر شماسنة أن هناك ما يقارب خمس عائلات في الحيّ بادرت إلى تركيب كاميرات أمام بيوتها "كوسيلة ردع"، على حدّ تعبيره، لمواجهة اعتداءات المستوطنين المتزايدة على أطفالهم وبيوتهم.
أما في سلوان، ففي العام 2010، قام أحد حراس المستوطنين بقتل الشاب الفلسطيني سامر سرحان، مُدعياً أن الشهيد كان يحاول الاعتداء عليه.
وقد قدم الأهالي يومها تصويراً لإحدى الكاميرات التابعة لأحد المحال التجارية الفلسطينية في المنطقة، يُثبت بأن الشهيد سرحان لم يقم بالاعتداء أو أي عمل يشكل "خطورة" على حياة الحارس الإسرائيلي، كما يدعي الاحتلال، إلا أن التصوير في حينها اعتُبر دليلاً غير كافٍ.
وفي قضية أخرى، يروي مدير مركز معلومات وادي حلوة في سلوان، جواد صيام، والذي فُرض عليه الحبس المنزلي لفترة من الزمن، كيف أن شرطة الاحتلال استخدمت كاميراتها المنصوبة قرب بيته ووفرت التسجيلات لها أمام المحكمة للاستدلال على تهم توجه له، إلا أن الشرطة امتنعت عن توفير تسجيلات أخرى أمام المحكمة حين لم يكن ذلك يخدم التهم الموجهة لصيام، متعللة حينها بأن ملفات التصوير قد محيت من أجهزتها الحاسوبية.
وبالإضافة إلى كونها أداة رصد وإدانة ضد الفتية الفلسطينيين، فإن هذه الكاميرات تنتهك خصوصية المجتمع الفلسطيني؛ فنظراً للاكتظاظ السكاني والحيّز الضيق الذي يتاح فيه البناء في القدس، فإن الكاميرا قد تلقتط صوراً أوسع لا تشمل الشوارع العامّة فحسب، وإنما تتلصلص داخل البيوت وأزقتها وتنتهك حرماتها.
وتذكر إحدى السيدات المقدسيات، في تقرير حقوقي لجمعية إسرائيلية صدر عام 2010، أنها تضطر لارتداء الحجاب كاملاً أثناء جلوسها في بيتها، نظراً لأن كاميرا بيت المستوطنين المجاور لبيتها موّجهة نحوها.
ويعلق صيام على ذلك بالقول إن بعض الأهالي في سلوان لا يفتحون نوافذ بيوتهم مطلقاً، ويبقونها مغطاة بالستائر القماشية طيلة الـ24 ساعة لوجود كاميرات تنتهك حرمة منازلهم. ويشير صيام إلى أن هناك ما يقرب من 450 كاميرا مراقبة تابعة لسلطات الاحتلال في سلوان لوحدها.
وكانت الإذاعة الإسرائيلية قد كشفت، صباح الخميس، أن وزارة الأمن الداخلي تنوي نصب 500 كاميرا مراقبة جديدة في مختلف الشوارع والأحياء في مدينة القدس المحتلة، بدءاً من شارع رقم 1 الرئيسي والمحاذي للتلة الفرنسية، وصولاً إلى مستوطنة "هار حوماه"، المقامة على أراضي جبل أبو غنيم جنوباً. وذكرت الإذاعة الإسرائيلية أن تنفيذ المشروع سينتهي خلال ثلاث سنوات، وسيكلّف حوالى 100 ميلون شيكل.
وتعود مسألة تركيب الكاميرات للمراقبة في القدس من قبل شرطة الاحتلال إلى فترة الانتفاضة الأولى، حين بدأت تتصاعد عمليات تسرُّب المنازل الفلسطينية إلى أيدي الجمعيات الاستيطانية، والتي كان أشهرها تسريب منزل فلسطيني في شارع الواد في البلدة القديمة، إلى يد رئيس وزارء حكومة الاحتلال، ارييل شارون، الذي كان حينها وزيراً للإسكان.
ثم أدّى استيلاء مدرسة "عطيرت كوهانين"، في عقبة الخالدية، على الأحياء المجاورة، وتحولها إلى بؤرة استيطانية، دوراً كبيراً في زرع الكاميرات لحماية نفسها من الفدائيين. ومع تزايد عدد المستوطنين في قلب الأحياء الفلسطينية، تذرعت شرطة الاحتلال بالحفاظ على أمن المستوطنين من "اعتداءات" الفلسطينيين لتقوم بتركيب العديد من تلك الكاميرات.
وقد ترافقت تلك الكاميرات مع "وسائل مراقبة" بشرية، إذ تغصّ القدس بالحراس الأمنيين الذين يرافقون المستوطنين إلى بيوتهم ويحرسونها.
وتوضح المعطيات المتوافرة أن قضية الحراس الأمنيين في القدس بدأت منذ استولى شارون على المنزل المقدسي، فقام بتعيين حراس شخصيين له وللمنزل على حساب وزارة الإسكان التي كان يرأسها. ومنذ ذلك الحين، اتّسعت ظاهرة توظيف حراس المستوطنين، حتى أصبح عددهم، وفق آخر الإحصائيات، يناهز 350 حارساً في القدس.
وقد نشرت جمعية حقوقية إسرائيلية، العام الماضي، معطيات تشير إلى أن كلفة توظيف هؤلاء وصلت عام 2012 إلى نحو 50 مليون شيكل، في حين وصلت عام 2010 إلى 76 مليون شيكل. وقد أشارت الجمعية الحقوقية إلى أن هناك تهديداً حقيقياً لحياة الفلسطينيين من قبل هؤلاء الحراس، إذ إن صلاحياتهم الأمنية غير محددة وغير واضحة في القانون الإسرائيلي.