13 نوفمبر 2024
حرب السايبر القادمة
ما كان مجرد خيال علمي تحقق على أرض الواقع، فحرب "السايبر" وقعت، وهذه المرة بين أكبر قوتين عسكريتين في العالم، أميركا وروسيا، فقد اعترف الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، باراك أوباما، بأن روسيا تدخلت "إلكترونيا" للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية التي شهدتها بلاده في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وأدت إلى فوز سيد البيت الأبيض الجديد، دونالد ترامب، بدعم "سايبري" روسي.
الهجوم "السايبري" الروسي للتأثير على نتائج الانتخابات، انتقاماً من تصريحات المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، التي سبق لها أن شكّكت في نتائج انتخاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرة الثالثة لرئاسة بلاده، استهدف حسابات البريد الإلكتروني لمؤسسات ومسؤولين في الحزب الديمقراطي لسرقة معلومات تم نشرها قبيل توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع، ما أثر على قرارات تصويتهم. إنها بداية الحرب "السايبرية" التي توعّد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته بأن يكون الرد عليها في "الزمان والمكان الذي تختاره الولايات المتحدة".
وحتى قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية، كان مسؤلون أميركيون يتوقعون أن يحصل مثل هذا الهجوم بسرقة معلوماتٍ، وتسريبها إلى وسائل الإعلام، من شأنها التأثير على قرارات الناخب الأميركي. ونقلت "واشنطن بوست" عن مسؤولين أميركيين تخوفهم من حصول اختراق روسي، من خلال وسائل التجسس الإلكترونية، لتغيير نتائج الانتخابات، أو زرع الشكوك في نتائجها، بعد عملية التصويت. وما كان مجرد تخوف تحول إلى حقيقة.
نفت روسيا مراراً أي دور لها في التدخل في الانتخابات الأميركية، لكن الأميركيين متأكدون من أن ما تعرضوا له هو هجوم "سايبري" روسي، وهم يعدّون اليوم الرد الذي توعد به الرئيس الأميركي، وسبق لمسؤولين من أجهزة المخابرات الأميركية أن وصفوه بأنه سيكون أكثر عدوانية.
مع نهاية الحرب الباردة، ساد اعتقاد مخادع مفاده بأن زمن الحروب التقليدية بين القوى
العظمى انتهى إلى غير رجعة، بسبب أسلحة الردع المدمرة التي تمتلكها هذه القوى، والتي قد تدمر العالم، وليس فقط العدو، في حال استعمالها. وبدلاً من أن يسود السلم والتعاون المأمول الذي أُنشئت من أجله الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ارتفع منسوب التوتر بين القوى العظمى، حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم بين أميركا وروسيا من جهة، وبين أميركا والصين من جهة أخرى، وبين روسيا وأوروبا من جهة ثالثة. وتحولت الدول الصغيرة وشعوبها إلى ساحاتٍ وحطبٍ لهذه الحروب بالوكالة، المشتعلة في أكثر من بقعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال شرق أوروبا وجنوب شرق آسيا ووسط شرق أفريقيا. لكن هذه الحروب لم تقتصر فقط على بقع جغرافية بعينها، وإنما تطورت إلى حروب عابرة للقارات عن طريق القرصنة الإلكترونية، أو ما باتت تعرف بـ"الحرب السايبرية" التي تستهدف الأنظمة الإلكترونية للعدو، لإلحاق أضرار مادية كبيرة به.
هذا الجيل الجديد من الحروب التي تستعمل نوعاً جديداً من الأسلحة كانت مجرد فكرة تغري منتجي أفلام الخيال العلمي، قبل أن تتحول اليوم حقيقة. وحتى قبل قضية اتهام أميركا روسيا بالتدخل لتوجيه نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن هذه الحرب كانت قد بدأت فعلا بين الروس وأميركا من جهة وبين الروس وأوروبا، بل وحتى بين أميركا وحلفائها الأوروبيين، كما كشف عن ذلك عميل المخابرات الأميركية المنشق، إدوارد سنودن، الذي فضح طريقة التجسس الإلكتروني الأميركي على رؤساء الدول العظمى، بما فيها حتى الدول الصديقة لأميركا.
لقد أعطت هذه الحرب الجديدة لروسيا الخارجة منهكةً ومنهزمةً من الحرب الباردة الفرصة للانتقام من عدوها التقليدي، الغرب، الذي لم تنه معه صراعها مع نهاية الحرب الباردة، لأن قضايا كثيرة صدامية ظلت عالقة بين الطرفين. ومع وجود شخصٍ، مثل فلاديمير بوتين، على رأس الاتحاد الروسي، قادم من جهاز مخابرات "الاتحاد السوفييتي" البائد، وصاحب طموح إمبراطوري كبير، يقيم سلطته على الاستبداد، يجب توقع أن تأخذ هذه الحرب الجديدة بعداً آخر، يسعى إلى تقويض النظام العالمي الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية وبدعم من الغرب، بناء على رؤيتها للعالم، منذ نهاية الحرب الباردة.
وخطورة هذه الحرب القادمة أكبر بكثير مما قد يتصوره بعضهم ممن يصفونها بـ"الحرب
الناعمة"، على اعتبار أنها لا تلجأ إلى استعمال الأسلحة التقليدية، أو أسلحة الدمار الشامل. وتكمن هذه الخطورة في قدرتها على شل اقتصاديات الدول، وتخريب منظوماتها الإلكترونية، مع ما يمكن أن ينتج عن ذلك من مخاطر، عندما تستهدف الأنظمة الإلكترونية قطاعات حساسة داخل الدول، مثل شبكات الاتصالات، وشبكات التزوّد بالماء والكهرباء والغاز والطرق، وتعطيل أنظمة اشتغال المفاعلات النووية، والتحكّم في السدود الكبرى، وأنظمة الطيران، والتحكّم في تحويل وجهات الصواريخ بعد إطلاقها، وتعطيل خدمات المستشفيات وآلات العمل داخل المصانع الكبرى، وزرع الفيروسات الفتاكة في كل الأنظمة الإلكترونية التي يستعملها الإنسان في حياته اليومية... وتكبر هذه الخطورة، إذا علمنا أن هذه الأسلحة الجديدة الفتاكة متاحةٌ لكل قرصانٍ يمكن أن يستعملها بشكل فردي، وللتنظيمات الإرهابية التي تكون غايتها إجراميةً بالدرجة الأولى هي القتل والترهيب والدمار والتخريب.
فقد سبق أن استعملت إسرائيل هذه الحرب ضد إيران، عندما زرعت فيروساً مدمراً في أجهزة الكمبيوتر في أحد مفاعلاتها النووية، أثر على أدائها، وكان يمكن أن يؤدي إلى ما هو أخطر لو لم يتم اكتشافه وتحييده. وحتى قبل هذا الحادث الذي دقّ ناقوس الخطر بالنسبة للحروب القادمة، فإن هذا النوع الجديد من الحروب القائم على عمليات اختراق لمنظومات إلكترونية كان موجوداً، ولم تسلم منه حتى أنظمة عسكرية متطورة في دول كبرى، مثل أميركا التي نجح قراصنة موقع "ويكيليكس" في اختراقها، والوصول إلى معلوماتها الأكثر حساسية. فسلاح هذه الحرب الجديدة هي "المعلومة"، لذلك فهي تستهدفها، أينما كانت، للسطو عليها واستعمالها بالطريقة التي تخدم مصالح العدو أو الخصم. ولا يقتصر الأمر هنا على المعلومات العسكرية السرية، وإنما على جميع أنواع المعلومات الاقتصادية والعلمية والإلكترونية.
واستعداداً لهذه الحرب التي تبدو طويلة الأمد، بدأت الصين، القوة العالمية القادمة، بتشكيل ما سمّته "الجيش الأزرق" لحماية فضائها الإلكتروني من كل هجوم محتمل. كما أن أميركا تنفق سنوياً مليارات الدولارات لتطوير حماية أنظمتها الإلكترونية. وفي روسيا، تم إحداث "وحدات الدفاع الإلكتروني" تابعة للجيش الروسي، استعدادا لحرب الإنترنت القادمة. وغير خافٍ أن إسرائيل تعد نفسها للحرب "السايبرية" القادمة منذ عدة سنوات، وقد بدأت فعلا باستعمالها ضد إيران، وحركة حماس في غزة، وربما في مناطق أخرى لم يُفضح أمرها بعد. فالأمن المعلوماتي سيتقدّم، إن لم يكن قد تقدّم، أولويات الدول والحكومات، ويسبق جميع أنواع الأمن الأخرى، وتصرف عليه الدول اليوم مليارات الدولارات سنوياً، لتحديث أنظمة أمنها المعلوماتية، لأنها هي وسيلة الردع الوحيدة للوقوف في وجه كل هجوم مباغت.
وتبقى خطورة الحرب القادمة المقبلة أنها فجائية، لا يمكن توقع متى ستقع ولا أين، كما أنها لا يمكن أن تتحكّم فيها الحكومات والدول، بما أنه يمكن أن يبادر بها "قراصنة" فرادى منعزلون، كما يمكن أن تكون حرباً تلقائية، تنتج عن طريق تطور ذاتي لفيروسات مدمرة، عندما تخرج عن سيطرة أصحابها.
ومع تزايد خطورة هذه الحرب، بات مطروحاً على دول العالم أن تتوصل إلى وضع قوانين دولية قادرة على احتواء خطر وقوع حرب عالمية إلكترونية مدمرة. إنها أكبر خطر على مستقبل الإنسانية، إذا لم تنتبه إلى خطورتها، وهي حرب إن وقعت لا يمكن وقفها، كما أن التنافس فيها بين القوى العالمية الكبرى لن يوصل إلى "توازن رعب"، كما حدث في "الحرب الباردة"، وإنما سيؤدي إلى دمار مرعب.
الهجوم "السايبري" الروسي للتأثير على نتائج الانتخابات، انتقاماً من تصريحات المرشحة الديمقراطية، هيلاري كلينتون، التي سبق لها أن شكّكت في نتائج انتخاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمرة الثالثة لرئاسة بلاده، استهدف حسابات البريد الإلكتروني لمؤسسات ومسؤولين في الحزب الديمقراطي لسرقة معلومات تم نشرها قبيل توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع، ما أثر على قرارات تصويتهم. إنها بداية الحرب "السايبرية" التي توعّد الرئيس الأميركي المنتهية ولايته بأن يكون الرد عليها في "الزمان والمكان الذي تختاره الولايات المتحدة".
وحتى قبيل الانتخابات الرئاسية الأميركية، كان مسؤلون أميركيون يتوقعون أن يحصل مثل هذا الهجوم بسرقة معلوماتٍ، وتسريبها إلى وسائل الإعلام، من شأنها التأثير على قرارات الناخب الأميركي. ونقلت "واشنطن بوست" عن مسؤولين أميركيين تخوفهم من حصول اختراق روسي، من خلال وسائل التجسس الإلكترونية، لتغيير نتائج الانتخابات، أو زرع الشكوك في نتائجها، بعد عملية التصويت. وما كان مجرد تخوف تحول إلى حقيقة.
نفت روسيا مراراً أي دور لها في التدخل في الانتخابات الأميركية، لكن الأميركيين متأكدون من أن ما تعرضوا له هو هجوم "سايبري" روسي، وهم يعدّون اليوم الرد الذي توعد به الرئيس الأميركي، وسبق لمسؤولين من أجهزة المخابرات الأميركية أن وصفوه بأنه سيكون أكثر عدوانية.
مع نهاية الحرب الباردة، ساد اعتقاد مخادع مفاده بأن زمن الحروب التقليدية بين القوى
هذا الجيل الجديد من الحروب التي تستعمل نوعاً جديداً من الأسلحة كانت مجرد فكرة تغري منتجي أفلام الخيال العلمي، قبل أن تتحول اليوم حقيقة. وحتى قبل قضية اتهام أميركا روسيا بالتدخل لتوجيه نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن هذه الحرب كانت قد بدأت فعلا بين الروس وأميركا من جهة وبين الروس وأوروبا، بل وحتى بين أميركا وحلفائها الأوروبيين، كما كشف عن ذلك عميل المخابرات الأميركية المنشق، إدوارد سنودن، الذي فضح طريقة التجسس الإلكتروني الأميركي على رؤساء الدول العظمى، بما فيها حتى الدول الصديقة لأميركا.
لقد أعطت هذه الحرب الجديدة لروسيا الخارجة منهكةً ومنهزمةً من الحرب الباردة الفرصة للانتقام من عدوها التقليدي، الغرب، الذي لم تنه معه صراعها مع نهاية الحرب الباردة، لأن قضايا كثيرة صدامية ظلت عالقة بين الطرفين. ومع وجود شخصٍ، مثل فلاديمير بوتين، على رأس الاتحاد الروسي، قادم من جهاز مخابرات "الاتحاد السوفييتي" البائد، وصاحب طموح إمبراطوري كبير، يقيم سلطته على الاستبداد، يجب توقع أن تأخذ هذه الحرب الجديدة بعداً آخر، يسعى إلى تقويض النظام العالمي الجديد الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية وبدعم من الغرب، بناء على رؤيتها للعالم، منذ نهاية الحرب الباردة.
وخطورة هذه الحرب القادمة أكبر بكثير مما قد يتصوره بعضهم ممن يصفونها بـ"الحرب
فقد سبق أن استعملت إسرائيل هذه الحرب ضد إيران، عندما زرعت فيروساً مدمراً في أجهزة الكمبيوتر في أحد مفاعلاتها النووية، أثر على أدائها، وكان يمكن أن يؤدي إلى ما هو أخطر لو لم يتم اكتشافه وتحييده. وحتى قبل هذا الحادث الذي دقّ ناقوس الخطر بالنسبة للحروب القادمة، فإن هذا النوع الجديد من الحروب القائم على عمليات اختراق لمنظومات إلكترونية كان موجوداً، ولم تسلم منه حتى أنظمة عسكرية متطورة في دول كبرى، مثل أميركا التي نجح قراصنة موقع "ويكيليكس" في اختراقها، والوصول إلى معلوماتها الأكثر حساسية. فسلاح هذه الحرب الجديدة هي "المعلومة"، لذلك فهي تستهدفها، أينما كانت، للسطو عليها واستعمالها بالطريقة التي تخدم مصالح العدو أو الخصم. ولا يقتصر الأمر هنا على المعلومات العسكرية السرية، وإنما على جميع أنواع المعلومات الاقتصادية والعلمية والإلكترونية.
واستعداداً لهذه الحرب التي تبدو طويلة الأمد، بدأت الصين، القوة العالمية القادمة، بتشكيل ما سمّته "الجيش الأزرق" لحماية فضائها الإلكتروني من كل هجوم محتمل. كما أن أميركا تنفق سنوياً مليارات الدولارات لتطوير حماية أنظمتها الإلكترونية. وفي روسيا، تم إحداث "وحدات الدفاع الإلكتروني" تابعة للجيش الروسي، استعدادا لحرب الإنترنت القادمة. وغير خافٍ أن إسرائيل تعد نفسها للحرب "السايبرية" القادمة منذ عدة سنوات، وقد بدأت فعلا باستعمالها ضد إيران، وحركة حماس في غزة، وربما في مناطق أخرى لم يُفضح أمرها بعد. فالأمن المعلوماتي سيتقدّم، إن لم يكن قد تقدّم، أولويات الدول والحكومات، ويسبق جميع أنواع الأمن الأخرى، وتصرف عليه الدول اليوم مليارات الدولارات سنوياً، لتحديث أنظمة أمنها المعلوماتية، لأنها هي وسيلة الردع الوحيدة للوقوف في وجه كل هجوم مباغت.
وتبقى خطورة الحرب القادمة المقبلة أنها فجائية، لا يمكن توقع متى ستقع ولا أين، كما أنها لا يمكن أن تتحكّم فيها الحكومات والدول، بما أنه يمكن أن يبادر بها "قراصنة" فرادى منعزلون، كما يمكن أن تكون حرباً تلقائية، تنتج عن طريق تطور ذاتي لفيروسات مدمرة، عندما تخرج عن سيطرة أصحابها.
ومع تزايد خطورة هذه الحرب، بات مطروحاً على دول العالم أن تتوصل إلى وضع قوانين دولية قادرة على احتواء خطر وقوع حرب عالمية إلكترونية مدمرة. إنها أكبر خطر على مستقبل الإنسانية، إذا لم تنتبه إلى خطورتها، وهي حرب إن وقعت لا يمكن وقفها، كما أن التنافس فيها بين القوى العالمية الكبرى لن يوصل إلى "توازن رعب"، كما حدث في "الحرب الباردة"، وإنما سيؤدي إلى دمار مرعب.