حين نتحدّث اليوم عن الرأسمالية، بات علينا أن نفرّق بين المؤسسة الاقتصادية والمصنع. تفرقة لم يكن يلتفت لها أحد زمن بدايات التفكير العلمي في الظاهرة الرأسمالية.
في 2001، أعلنت شركة "ألكاتيل" الفرنسية (من كبريات شركات الاتصالات)، أنها سوف "تتخلص" من الإحدى عشرة وحدة صناعية التابعة لها. هذا المثال قد يبدو حاداً ومتطرّفاً في تجاوز البعد الصناعي لمؤسسة اقتصادية، ولكنه يبيّن توجّهات الرأسمالية المعاصرة. لقد كانت الوظيفتان "مؤسسة اقتصادية" و"مصنع" دائماً قابلتين للدمج. قدرتنا اليوم على التفريق القطعي بينهما ذات رمزية كبيرة حيث يعبّر عن تحوّل في عملية الإنتاج الرأسمالي.
بعد أن تصفّي وحداتها الصناعية، ما الذي يبقى لشركة عملاقة مثل "ألكاتيل"؟ ما يبقى هو جميع الوظائف، وجميع الخدمات، وجميع الموظّفين الذين لا يزالون قادرين على "خلق العالم": خدمات البحث، التسويق، التصميم، التواصل وغيرها.
هكذا، تُظهر المؤسسة الاقتصادية للعلن أنها لم تعد تريد أن تخلق "الجماد" (البضاعة)، وإنما تريد أن تخلق العالم الذي توجد فيه البضاعة، وأيضاً هي لم تعد تريد أن تخلق المستهلك (من خلال دفع الرواتب)، وإنما تريد أن تخلق العالم الذي يعيش فيه.
بعد ذلك، تصبح الخدمة أو المنتوج الذي تقدّمه المؤسسة، وأيضاً المستهلك والمنتج، كلهم عليهم أن يكونوا تابعين لهذا العالم وأعضاء فيه. عالمٌ ينبغي أن تحتويه الأذهان والأجساد، وربما الأرواح. وهذا الاحتواء يجري من خلال تقنيات لا تتبع جميعها شكلاً نظامياً خاضعاً للمنهجيات العلمية (كما في علم التسويق marketing).
في الرأسمالية المعاصرة، لا توجد المؤسسة الاقتصادية خارج المنتج والمستهلك، إنها في داخلهما. عالم المؤسسة ومنطقها وحقيقتها، أمور تتداخل مع علاقات المؤسسة. العاملون فيها والمستهلكون يتواصلون بينهم بشكل دائم. ودور المؤسسة اليوم هو العمل على بناء هذا التواصل/ التظافر بين العاملين فيها والمستهلكين داخل العالم الذي أنشأته.
عليها أن تفعّل دائماً هذه العوالم التي خلقتها، والذوات التي تتحرّك داخلها. عليها أيضاً أن تخلق تجديداً في الحساسيات (الرغبات، المعتقدات، الذكاء) التي تسبق إنتاج السلعة التي تريد تسويقها. إن الحرب التي تدور وقائعها على مستوى كوكبي (بين الشركات المتعددة الجنسيات) حربٌ جمالية/ ذوقية على أكثر من صعيد.
* من مقال بعنوان "خلق عوالم.. الرأسمالية المعاصرة والحروب الجمالية".
** ترجمة عن الفرنسية: شوقي بن حسن