30 أكتوبر 2024
حراك الجزائر .. الحصيلة والآفاق
يقترب الحراك الجزائري من إدراك شهره الرابع من دون أن يخفّ زخمه، أو ينخفض سقف مطالبه، محافظا على سلميّته وحضاريته، إلى درجة أن بعضهم بدأ في وصف الحراك بالثّورة البيضاء. كما حافظت السّلطات الفعلية في البلاد على تعاملها الحضاري معه، وعملت، في الوقت نفسه، على الاستجابة لبعض مطالبه، من دون أن ترقى الاستجابة إلى آمال الجزائريين. ولعلّ الوقت قد حان، لقراءةٍ في حصيلة هذا الحراك على مستويات عدّة، وخصوصا التي لها صلة بتعرية طبيعة النظام، وتشخيص مكامن تسلطيّته الهيكلية، التّعامل الإعلامي مع الحراك، درجة الاستجابة لمطالبه وآفاق الانسداد، محلّيا وإقليميا، في ظل رهانات المستقبل المنظور، أي انتخابات يوليو/ تموز المقبل، المرفوضة شعبيا، وانتهاء ولاية الرئيس المؤقت في الشهر نفسه، أيضا.
ويؤدّي تحليل مسلكية النّظام في الجزائر، منذ الاستقلال في 1962، إلى التّدليل على تداعيات تغييب الرأي الآخر، وكيف أنّ مراكز قوى غير دستورية يمكنها، في تلك الحالة، الوصول إلى اتخاذ قراراتٍ ترهن مستقبل بلادٍ بأكملها. كما يؤدّي ذلك، أيضا، إلى التدليل على أن مآل غياب دولة المؤسسات والتلاعب بالدستور، دوما، إلى حالةٍ استبداديةٍ، تزول معها القدرة على الاحتكام إلى القانون، أو القبول بالعودة إلى صندوق الانتخابات، إضافة إلى أنّ ذلك يعمل على صعود مؤسّساتٍ بديلةٍ خارج الدّستور، تكتسب قوةً، وتعمل في الظّلام، من أجل الاستحواذ على مزيد من أسباب التغوّل وإرادة الحفاظ على تلك المصالح، ولو عبر التضحية بالبلاد برمّتها.
يفيد التّحليل المتوازن للسياسة العامة للنظام الجزائري، وخصوصا في العقدين الأخيرين، من حيث عاملا الفشل والتسلطية، بأنّ ورشات إصلاح النّظام السياسي ستكون طويلة وشاقّة، وأنها ستكون عميقة بحجم عمق الإشكاليّات التي تمّت الإشارة إليها أعلاه، وهو ما نراه متجسّدا، فعلا، في الشّعارات التي يحملها الجزائريون كل يوم جمعة، منذ 22 فبراير/ شباط الماضي، موضحة، في أغلبها، إن لم يكن كلها، إلى وجوب "أن يرحلوا جميعا" (باللهجة الجزائرية "يتنحّاو قاع") أي وجوب فرض ميكانيزم/ آلية فعالة لمبدأ دوران النخب، يؤدي إلى تجدّدها/ تجديدها، من ناحية، وإلى تمثيلية أكبر وأكثر توازنا، لكلّ فئات الوطن وجهاته، من ناحية أخرى، بما يكفل إعمال دولة القانون المحتكمة، دوما، إلى عنصري الكفاءة والتداول على السلطة، بالارتكاز على مبادئ النجاح، الفشل، المحاسبة و الرّقابة، على غرار ما يجري في الدول المتحضّرة والديمقراطية.
وقد يكون قائد أركان الجيش، أحمد قايد صالح، أشار إلى كلّ ما سبق، حيث تحدّث، في خطابه
أخيرا، في المنطقة العسكرية الخامسة، عن اطلاعه على ملفّات ثقيلة للفساد، وبأنه ما زال يعرض انفتاح مؤسّسة الجيش على الحوار البناء، ذلك أن الفساد بلغ، مع تنفّذ تلك القوى غير الدستورية، لما يزيد عن عقدين، مبلغا كبيرا، خصوصا بالنظر إلى ما نهبته من المال العام. إضافة إلى أن ذلك التنفّذ لم يكن ليوقع كل ذلك الفساد، لولا عمق إشكاليات الاستبداد وإبطال عمل المؤسسات، وهو المرتكز الأساس في التغيير المستقبلي في البلاد.
يستدعي ذلك الحوار وتجسيد نداء الجزائريين والجيش، على حدّ سواء، للقضاء على الفساد، فتح ورشات كبيرة وكثيرة لا يتّسع لها مدى الثلاثة أشهر في المادة 102 من الدّستور. كما أن آلية الرئاسيات، المقرّرة في 4 يوليو/ تموز 2019، في ظلّ هذه الظروف، تصبح غير ذات منفعة، إذا قُدِّر/ بُرمج لها أن تتمّ من دون التطرّق، في إطار جلسات حوار/ تفاوض، إلى ملفّاتها بكلّ وضوح، لنصل إلى أن الفترة الانتقالية يجب أن تكون أطول (ستة أشهر على الأقل، من تاريخ انتهاء عهدة رئيس الدولة المؤقت، في 9 يوليو/ تموز)، متضمّنة الاتفاق على انتخابات رئاسية شفّافة، تنتهي إلى إعمال إصلاح عميق لآليات الصعود إلى الحكم، وإقرار ديمومة مؤسّسات دولة القانون، وعلى أساس تجسيد كرامة المواطن، بشكل أساسي.
الإعلام والصورة النمطية للتغيير
لم يشهد القطاع العمومي الانفتاح المرافق للرّاهن من تحرّكات واسعة على المستوى السياسي، في حين أنّ المشهد التلفزيوني الخاص بدأ في لعبة تزييف الوعي، فتعتقد قنوات بعينها أن الاصطفاف الجديد يمكّنها من ربح ما خسرته، في السّابق، على مستوى الإشهار، قصد تسجيل حضور قوي في المرحلة المقبلة، والتي سيكون للإعلام دور حيوي فيها. ويُشار، هنا، إلى أنّ المشهد الإعلامي تخلّله، في السّنوات الأخيرة، دخول فاعل جديد، وهو المواقع الإلكترونية الإخبارية، إضافة إلى نشاط الشباب على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، مشكلين، في جزء كبير منهم، فضاءً إعلاميا بديلا، وبقليل من الإمكانات عن الخنق السياسي، والتجفيف المالي المُمارس من النظام. وقد جاءت مقالةٌ سابقةٌ للكاتب في "العربي الجديد" عن دور تلك المواقع على "يوتيوب" في توسيع حجم العزوف عن المشاركة في الانتخابات وفتح جبهات جديدة لانتقاد السياسة العامة، والفشل السياسي للنظام، وهي الجبهات التي أوقدت نار الحراك الحالي، وسمحت بفتح أعين الجزائريين لإدراك الأخطار المحدقة بالبلاد، في حال استمرار السياسة الحالية، وخصوصا على المستويين الحيويين: الحوكمة العامة والاقتصاد.
فاق الوعي الذي برز من خلال الحراك كل تصوّر. وتكفي، للمتابع، قراءة مضمون اللافتات المرفوعة، كل يوم جمعة، لاستشفاف الفشل الذّريع للنظام، ولآلة الإعلام التي بناها لترافقه في الإقناع بأن بقاءه ضمان للاستقرار. ولا يمكن، هنا، إلا أن نعزو للإعلام البديل (مواقع إخبارية وشبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية) الدّور الحيوي في القيام بذلك، وخصوصا في السعي الحثيث إلى التحرّر من المخيال الجمعي، الحامل هواجس الخوف، الذي أرادت السلطة أن تحبس في داخله الجزائريين، وتمنعهم من الوعي الحقيقي بوضعهم وبمستقبلهم. ولا يمكن إغفال الدّور الذي لعبته وجوهٌ إعلامية كانت تستغلّ فسحةً من المجال المُتاح لها، لتشغله بما يصنع الوعي، ولو على قنوات صاحبة الخط الافتتاحي الضيق أو الموالي، بصفة علنية أو ضمنية، لسياسات النظام، ومنها الوجوه التي كانت تستضيف المعارضين، وتسمح لهم بانتقاد السّلطة. وهي، على قلّتها، أسّست لما يجري حاليا. كما لا يجب، أيضا، إغفال كُتّاب الرّأي وصحافيين صمدوا وحافظوا على مصداقية أقلامهم، في مواجهة جحافل المطبّلين لسياسات النظام. وهؤلاء هم، في الحقيقة، الرّعيل الأول لحراك الجزائر الحالي، إذ إن كلماتهم هي التي أبقت شعلة الوعي مشتعلة، ودفعت إلى إيقاظ همم الجزائريين، لينتقموا لكرامتهم التي امتُهنت سنوات، حتى أن هناك من ظن أنهم ماتوا ولا يُرتجى منهم شيء، إلى أن حلت ساعة الحقيقة، وساعة الوعي المتّقد والمتيقّظ.
وبذلك، سيكون من بين أولويات التغيير المقبل إصلاح منظومة الإعلام، وفتحها لتكون صانعة
للوعي، وكاشفة للحقائق التي تخدم مصالح الجزائر، وكرامة المواطن، دونما تعلق لها بعالم المال أو خضوع/ إخضاع لها بأدوات التضييق من مجالات أدائها مهامها الإعلامية، ماليةً كانت، أو سياسية أو قانونية.
استطاع الإعلام، بالنتيجة، وعلى الرغم من كل ما قيل عن النّقائص، مساعدة الحراك على رسم صورةٍ لبلد يحتاج إلى الإصلاح العميق، حيث عكس صورةً لبلد ضعيف، وعلاماته خمس: مأسسة الجهل والجمود والرداءة، عبادة الشخص، مأسسة الفساد، اتخاذ القرار بيد عدد قليل أو دائرة صغيرة من الأشخاص عوض المؤسسات، وهنا يكون القرار عاطفيا، وليس تبعا لتحليل ودراسة وتقييم للوضع، وتفتيت مراكز القرار في قمة الدولة، أي ليس ثمّة وجود لمؤسّسات ووحدة رؤية، لدى جسمٍ منسجمٍ داخل آلة الدولة، وهي علاماتٌ كلها دلائل على عمق الفشل وجدوى المناداة بالإصلاح والتغيير الضّروريين والعاجلين، قصد العودة إلى التاريخ من بابه الواسع.
الاستجابة للحراك والحاجة للتّفاوض
يصرّ كلّ من قائد الأركان، قايد صالح، ورئيس الدّولة المؤقت، عبد القادر بن صالح، على تاريخ 4 يوليو/ تموز لتنظيم الانتخابات الرئاسية، ويعتبرانه موعدا حيويّا لا بدّ منه، باعتباره، ربّما، أسمى ما يمكن أن يمنحه النّظام، في إطار السّجال بينه وبين الجزائريين منذ 22 فبراير/ شباط، تاريخ انطلاق شرارة المطالبة بالتّغيير الذي تزول من خلاله وجوه النّظام القديم، وتحلّ محلّه، بفعل تطبيق مبدأ دوران النّخب، وجوه جديدة، لها رصيد معتبر من نظافة اليد، الكفاءة وتاريخ خالٍ من الانخراط في علاقات ما (تبعية، موالاة، تحالف) مع النّظام السابق، أو فساده، أيّا كان شكله.
اعتبار النظام ذلك التاريخ حيويا لا يعني البتة أنّه مفصلي. وهو ما يشكّل، بالنّسبة للفاعلين على السّاحة، حاليا، الحراك والنظام، مدخلا لحوار/ تفاوض قادم، أو البناء عليه، باعتباره نسقا يمكن الانطلاق منه لسماع كلّ طرف وجهة نظر الطّرف الآخر، ما يعني مقدّمة لتقارب الإرادتين من نقاط تقاطعٍ، ستكون مفصلية في أفق حلّ معضلة الانسداد الحالي. كما يُضاف إلى ما سبقت الإشارة إليه أنّ قائد الأركان تحدّث عن إجراء الانتخابات في "ظروفٍ مواتية"، ما أطلق العنان، حينها، لتلميحاتٍ أو تخميناتٍ إلى إمكانية أن لا يكون ذلك التّاريخ مقدّسا أو مفصليا لمسار رسم حلول للانسداد.
وقد لوحظ، منذ بدء الحراك، تطوّر في منحنى مواقف مؤسّسة الجيش، ممّا يحدث في البلاد، ما يعني أنّ المؤسّسة، كما قال قائد الأركان، وأكّدته افتتاحية مجلة الجيش، بعيدة عن الانخراط في الفعل السياسي، على شاكلة ما دُفعت إليه من أطراف، في بداية تسعينيات القرن الماضي،
إضافة إلى مؤشّرين هامّين، حديثها عن انفتاحها على الحوار، أي قبولها مناقشة مبادراتٍ ترد إليها من الحراك، وقول الرئيس المؤقّت (يتحدّث في إطار تناسق مواقف مع مؤسّسة الجيش) إنّ المطالب المرفوعة من الجزائريين مشروعة، وكلها تجعل من الممكن الجلوس إلى طاولة تفاوض لرسم مسار بديل عن الانتخابات الرئاسية المقترحة في التاريخ المشار إليه.
ومن جانب الحراك، فإنّ بدء التحرّكات لترجمة مطالب المتظاهرين انطلق باقتراح إشراك شخصيات توافقية في مسار حلّ الانسداد، بل وتقدّم بعضهم بمبادرات، وإن من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو من أكاديميين، وهذا يعني، بالنّتيجة، أنّ الطّرف الثّاني فهم تلك الإشارات كما يكون قد فهم أن ثمّة مساراتٍ للحوار قد تُفتح، يجب الولوج من خلالها إلى اقتراح بدائل، تكون في منطق البدء في مرحلة انتقالية، وإرجاء انتخابات الرّئاسة إلى ما بعد 4 يوليو/ تموز. بالنّتيجة، يكون مسار المرحلة الانتقالية قد ظهرت بوادره، وينتظر، فقط، تسجيل نقاط التقاطع بين الفاعلين والانطلاق في إبراز العروض التّفاوضية، مع التسليم بأن المرحلة الانتقالية هي البديل عن موعدين، هما 4 و9 يوليو/ تموز، الرّئاسيات وانتهاء ولاية الرئيس المؤقت، والرّهان هو على عدم الدّخول في حالة شغور دستورية، والاستفادة من قرابة الشهرين التي تفصلنا عن الموعدين، في تفصيل العروض والبدء في الحوار بشأنها، لتنطلق "المرحلة الانتقالية" الحقيقية التي يمكن أن تكون من ستة أشهر، على أقصى تقدير.
بقي من الوقت إذاً حوالي الشهرين، يجب استغلالهما في إنضاج مبادراتٍ طالما أشارت إليها شعارات الجزائريين في تظاهراتهم، وتضمنتها خطابات الممثلين الرسميين للنظام (قائد الأركان ورئيس الدولة المؤقت)، وهي مبادرات تجعل من الحوار، أيا كان شكله أو منطلقه، هدفا ومقصدا، كونه الوسيلة الاتصالية، من ناحية، ومقاربة حضارية لعرض المواقف، ووزنها من حيث القبول والرفض، أي القابلية للتسوية/ التنازل، وصولا إلى إقرار مبدأ تبادل الآراء، لإيجاد حلّ للانسداد، من ناحية ثانية.
لا يمكن الاعتقاد أنّ الانسداد السياسي الرّاهن بأمد زمني غير محدود، بل إنّ مجرّد تمسّك قيادة الأركان بالمبدأ الدّستوري لحلّ الأزمة يعني أن الموعدين المذكورين للانتخابات ولنهاية عهدة الرئيس المؤقت يشكلان الهاجس الرّئيس، المحفّز على الذّهاب إلى هذا الحوار ومحاولة الإنصات لوجهتي نظر الحراك والنظام. ولعلّ روحانية شهر رمضان فرصة للقاءٍ يكون من ثماره انطلاق مسار هذا الحوار/ التّفاوض، ولو في جلسات الإنصات الأولى، ثم التّفاهم والاتّفاق على مبادئ تحكم الحوار من حيث الممثّلون، الضمانات، روزنامة الجدول الزّمني، ثم المقصد، وهو الدّخول في مرحلة انتقالية حقيقية تنتهي بانتخاباتٍ، تضمن العودة إلى الوضع السياسي الطبيعي، ولكن بمبادئ مغايرة للتي سادت خلال العقدين الأخيرين.
وقد بدا أخيرا أفق لحلٍّ جاء من نداء رفعته شخصيات وطنية دعت، من خلاله، إلى الحوار بين الحراك (ممثليه) والجيش بشأن نقاطٍ حيوية، تتعلق كلها بإدارة المرحلة الانتقالية، تجاوز تاريخ 4 يوليو/ تمـــوز، واقتراح خريطة طريق واضحة، تأخذ في الاعتبار مطالب الحراك بالتغيير الحقيقي، من خلال إجراءات ملموسة، تجمع بين محاربة الفساد والانطلاق في مسار سياسي جاد، يؤدي إلى بناء الجمهورية الثانية.
آفاق الحراك.. إلى أين؟
يعد هذا العمل الحضاري المتمثل في الحراك تكملة لمسار أزمة طويلة وعميقة، اتّسمت بسلمية
من الحراك، وباستجابة للمطالب، وإنْ جزئية، من النّظام، وهو ما يمكن البناء عليه لإطلاق مسار الحلّ للأزمة وإدارتها بحضارية مماثلة تكون بوصلة للتغيير ومقاربة يمكن أن يُحتذى بها في تجارب الانتقال نحو الديمقراطية.
يحتاج الإصرار على الدّفع نحو تبنّي هذا المسار الحواري إلى مرافقة من الإعلام الذي عليه أن يفتح نقاشاتٍ توعوية لمدى حيوية الخطوة بالنسبة لإيجاد حل للأزمة. كما سيحتاج هذا الإصرار إلى ثقل شخصيات وطنية، تلقي برصيدها المعنوي على الساحة، لتشكل عامل الثقة بمقصد بناء الجمهورية الثانية.
خيارات النّظام والحراك تضيق كلما اتّسع المدى الزّمني للانسداد، وهي خيارات تتمحور، الآن، حول البدء في الإصرار على حوارٍ غير مشروط، يكون منطلقه عدم قُدسية تاريخ الانتخابات، ورهان هذا المسعى الحيوي هو الحفاظ على استقرار البلاد، وبعث الآلة الاقتصادية التي لا يمكنها الاستمرار في البطء الذي تدور به، مع ما لذلك كله من تبعاتٍ على الوضع الاجتماعي في المستقبل المنظور.
وقد أكدت تظاهرات الجمعة إصراراً من الحراك على إيصال مطالبه إلى مرحلة التّجسيد، وهو ما يجب أن يُقابله النّظام بمبادرة فسح المجال للتأكيد أن الانتخابات حيوية، ولكن يمكن التفاوض بشأن تاريخها، كما يمكن التّفاوض بشأن المرحلة الانتقالية، وفق ما سبق ذكره، وذلك كلّه في صالح الجزائر ومقصد بناء الجمهورية الثانية.
ويؤدّي تحليل مسلكية النّظام في الجزائر، منذ الاستقلال في 1962، إلى التّدليل على تداعيات تغييب الرأي الآخر، وكيف أنّ مراكز قوى غير دستورية يمكنها، في تلك الحالة، الوصول إلى اتخاذ قراراتٍ ترهن مستقبل بلادٍ بأكملها. كما يؤدّي ذلك، أيضا، إلى التدليل على أن مآل غياب دولة المؤسسات والتلاعب بالدستور، دوما، إلى حالةٍ استبداديةٍ، تزول معها القدرة على الاحتكام إلى القانون، أو القبول بالعودة إلى صندوق الانتخابات، إضافة إلى أنّ ذلك يعمل على صعود مؤسّساتٍ بديلةٍ خارج الدّستور، تكتسب قوةً، وتعمل في الظّلام، من أجل الاستحواذ على مزيد من أسباب التغوّل وإرادة الحفاظ على تلك المصالح، ولو عبر التضحية بالبلاد برمّتها.
يفيد التّحليل المتوازن للسياسة العامة للنظام الجزائري، وخصوصا في العقدين الأخيرين، من حيث عاملا الفشل والتسلطية، بأنّ ورشات إصلاح النّظام السياسي ستكون طويلة وشاقّة، وأنها ستكون عميقة بحجم عمق الإشكاليّات التي تمّت الإشارة إليها أعلاه، وهو ما نراه متجسّدا، فعلا، في الشّعارات التي يحملها الجزائريون كل يوم جمعة، منذ 22 فبراير/ شباط الماضي، موضحة، في أغلبها، إن لم يكن كلها، إلى وجوب "أن يرحلوا جميعا" (باللهجة الجزائرية "يتنحّاو قاع") أي وجوب فرض ميكانيزم/ آلية فعالة لمبدأ دوران النخب، يؤدي إلى تجدّدها/ تجديدها، من ناحية، وإلى تمثيلية أكبر وأكثر توازنا، لكلّ فئات الوطن وجهاته، من ناحية أخرى، بما يكفل إعمال دولة القانون المحتكمة، دوما، إلى عنصري الكفاءة والتداول على السلطة، بالارتكاز على مبادئ النجاح، الفشل، المحاسبة و الرّقابة، على غرار ما يجري في الدول المتحضّرة والديمقراطية.
وقد يكون قائد أركان الجيش، أحمد قايد صالح، أشار إلى كلّ ما سبق، حيث تحدّث، في خطابه
يستدعي ذلك الحوار وتجسيد نداء الجزائريين والجيش، على حدّ سواء، للقضاء على الفساد، فتح ورشات كبيرة وكثيرة لا يتّسع لها مدى الثلاثة أشهر في المادة 102 من الدّستور. كما أن آلية الرئاسيات، المقرّرة في 4 يوليو/ تموز 2019، في ظلّ هذه الظروف، تصبح غير ذات منفعة، إذا قُدِّر/ بُرمج لها أن تتمّ من دون التطرّق، في إطار جلسات حوار/ تفاوض، إلى ملفّاتها بكلّ وضوح، لنصل إلى أن الفترة الانتقالية يجب أن تكون أطول (ستة أشهر على الأقل، من تاريخ انتهاء عهدة رئيس الدولة المؤقت، في 9 يوليو/ تموز)، متضمّنة الاتفاق على انتخابات رئاسية شفّافة، تنتهي إلى إعمال إصلاح عميق لآليات الصعود إلى الحكم، وإقرار ديمومة مؤسّسات دولة القانون، وعلى أساس تجسيد كرامة المواطن، بشكل أساسي.
الإعلام والصورة النمطية للتغيير
لم يشهد القطاع العمومي الانفتاح المرافق للرّاهن من تحرّكات واسعة على المستوى السياسي، في حين أنّ المشهد التلفزيوني الخاص بدأ في لعبة تزييف الوعي، فتعتقد قنوات بعينها أن الاصطفاف الجديد يمكّنها من ربح ما خسرته، في السّابق، على مستوى الإشهار، قصد تسجيل حضور قوي في المرحلة المقبلة، والتي سيكون للإعلام دور حيوي فيها. ويُشار، هنا، إلى أنّ المشهد الإعلامي تخلّله، في السّنوات الأخيرة، دخول فاعل جديد، وهو المواقع الإلكترونية الإخبارية، إضافة إلى نشاط الشباب على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي، مشكلين، في جزء كبير منهم، فضاءً إعلاميا بديلا، وبقليل من الإمكانات عن الخنق السياسي، والتجفيف المالي المُمارس من النظام. وقد جاءت مقالةٌ سابقةٌ للكاتب في "العربي الجديد" عن دور تلك المواقع على "يوتيوب" في توسيع حجم العزوف عن المشاركة في الانتخابات وفتح جبهات جديدة لانتقاد السياسة العامة، والفشل السياسي للنظام، وهي الجبهات التي أوقدت نار الحراك الحالي، وسمحت بفتح أعين الجزائريين لإدراك الأخطار المحدقة بالبلاد، في حال استمرار السياسة الحالية، وخصوصا على المستويين الحيويين: الحوكمة العامة والاقتصاد.
فاق الوعي الذي برز من خلال الحراك كل تصوّر. وتكفي، للمتابع، قراءة مضمون اللافتات المرفوعة، كل يوم جمعة، لاستشفاف الفشل الذّريع للنظام، ولآلة الإعلام التي بناها لترافقه في الإقناع بأن بقاءه ضمان للاستقرار. ولا يمكن، هنا، إلا أن نعزو للإعلام البديل (مواقع إخبارية وشبكات التواصل الاجتماعي الافتراضية) الدّور الحيوي في القيام بذلك، وخصوصا في السعي الحثيث إلى التحرّر من المخيال الجمعي، الحامل هواجس الخوف، الذي أرادت السلطة أن تحبس في داخله الجزائريين، وتمنعهم من الوعي الحقيقي بوضعهم وبمستقبلهم. ولا يمكن إغفال الدّور الذي لعبته وجوهٌ إعلامية كانت تستغلّ فسحةً من المجال المُتاح لها، لتشغله بما يصنع الوعي، ولو على قنوات صاحبة الخط الافتتاحي الضيق أو الموالي، بصفة علنية أو ضمنية، لسياسات النظام، ومنها الوجوه التي كانت تستضيف المعارضين، وتسمح لهم بانتقاد السّلطة. وهي، على قلّتها، أسّست لما يجري حاليا. كما لا يجب، أيضا، إغفال كُتّاب الرّأي وصحافيين صمدوا وحافظوا على مصداقية أقلامهم، في مواجهة جحافل المطبّلين لسياسات النظام. وهؤلاء هم، في الحقيقة، الرّعيل الأول لحراك الجزائر الحالي، إذ إن كلماتهم هي التي أبقت شعلة الوعي مشتعلة، ودفعت إلى إيقاظ همم الجزائريين، لينتقموا لكرامتهم التي امتُهنت سنوات، حتى أن هناك من ظن أنهم ماتوا ولا يُرتجى منهم شيء، إلى أن حلت ساعة الحقيقة، وساعة الوعي المتّقد والمتيقّظ.
وبذلك، سيكون من بين أولويات التغيير المقبل إصلاح منظومة الإعلام، وفتحها لتكون صانعة
استطاع الإعلام، بالنتيجة، وعلى الرغم من كل ما قيل عن النّقائص، مساعدة الحراك على رسم صورةٍ لبلد يحتاج إلى الإصلاح العميق، حيث عكس صورةً لبلد ضعيف، وعلاماته خمس: مأسسة الجهل والجمود والرداءة، عبادة الشخص، مأسسة الفساد، اتخاذ القرار بيد عدد قليل أو دائرة صغيرة من الأشخاص عوض المؤسسات، وهنا يكون القرار عاطفيا، وليس تبعا لتحليل ودراسة وتقييم للوضع، وتفتيت مراكز القرار في قمة الدولة، أي ليس ثمّة وجود لمؤسّسات ووحدة رؤية، لدى جسمٍ منسجمٍ داخل آلة الدولة، وهي علاماتٌ كلها دلائل على عمق الفشل وجدوى المناداة بالإصلاح والتغيير الضّروريين والعاجلين، قصد العودة إلى التاريخ من بابه الواسع.
الاستجابة للحراك والحاجة للتّفاوض
يصرّ كلّ من قائد الأركان، قايد صالح، ورئيس الدّولة المؤقت، عبد القادر بن صالح، على تاريخ 4 يوليو/ تموز لتنظيم الانتخابات الرئاسية، ويعتبرانه موعدا حيويّا لا بدّ منه، باعتباره، ربّما، أسمى ما يمكن أن يمنحه النّظام، في إطار السّجال بينه وبين الجزائريين منذ 22 فبراير/ شباط، تاريخ انطلاق شرارة المطالبة بالتّغيير الذي تزول من خلاله وجوه النّظام القديم، وتحلّ محلّه، بفعل تطبيق مبدأ دوران النّخب، وجوه جديدة، لها رصيد معتبر من نظافة اليد، الكفاءة وتاريخ خالٍ من الانخراط في علاقات ما (تبعية، موالاة، تحالف) مع النّظام السابق، أو فساده، أيّا كان شكله.
اعتبار النظام ذلك التاريخ حيويا لا يعني البتة أنّه مفصلي. وهو ما يشكّل، بالنّسبة للفاعلين على السّاحة، حاليا، الحراك والنظام، مدخلا لحوار/ تفاوض قادم، أو البناء عليه، باعتباره نسقا يمكن الانطلاق منه لسماع كلّ طرف وجهة نظر الطّرف الآخر، ما يعني مقدّمة لتقارب الإرادتين من نقاط تقاطعٍ، ستكون مفصلية في أفق حلّ معضلة الانسداد الحالي. كما يُضاف إلى ما سبقت الإشارة إليه أنّ قائد الأركان تحدّث عن إجراء الانتخابات في "ظروفٍ مواتية"، ما أطلق العنان، حينها، لتلميحاتٍ أو تخميناتٍ إلى إمكانية أن لا يكون ذلك التّاريخ مقدّسا أو مفصليا لمسار رسم حلول للانسداد.
وقد لوحظ، منذ بدء الحراك، تطوّر في منحنى مواقف مؤسّسة الجيش، ممّا يحدث في البلاد، ما يعني أنّ المؤسّسة، كما قال قائد الأركان، وأكّدته افتتاحية مجلة الجيش، بعيدة عن الانخراط في الفعل السياسي، على شاكلة ما دُفعت إليه من أطراف، في بداية تسعينيات القرن الماضي،
ومن جانب الحراك، فإنّ بدء التحرّكات لترجمة مطالب المتظاهرين انطلق باقتراح إشراك شخصيات توافقية في مسار حلّ الانسداد، بل وتقدّم بعضهم بمبادرات، وإن من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو من أكاديميين، وهذا يعني، بالنّتيجة، أنّ الطّرف الثّاني فهم تلك الإشارات كما يكون قد فهم أن ثمّة مساراتٍ للحوار قد تُفتح، يجب الولوج من خلالها إلى اقتراح بدائل، تكون في منطق البدء في مرحلة انتقالية، وإرجاء انتخابات الرّئاسة إلى ما بعد 4 يوليو/ تموز. بالنّتيجة، يكون مسار المرحلة الانتقالية قد ظهرت بوادره، وينتظر، فقط، تسجيل نقاط التقاطع بين الفاعلين والانطلاق في إبراز العروض التّفاوضية، مع التسليم بأن المرحلة الانتقالية هي البديل عن موعدين، هما 4 و9 يوليو/ تموز، الرّئاسيات وانتهاء ولاية الرئيس المؤقت، والرّهان هو على عدم الدّخول في حالة شغور دستورية، والاستفادة من قرابة الشهرين التي تفصلنا عن الموعدين، في تفصيل العروض والبدء في الحوار بشأنها، لتنطلق "المرحلة الانتقالية" الحقيقية التي يمكن أن تكون من ستة أشهر، على أقصى تقدير.
بقي من الوقت إذاً حوالي الشهرين، يجب استغلالهما في إنضاج مبادراتٍ طالما أشارت إليها شعارات الجزائريين في تظاهراتهم، وتضمنتها خطابات الممثلين الرسميين للنظام (قائد الأركان ورئيس الدولة المؤقت)، وهي مبادرات تجعل من الحوار، أيا كان شكله أو منطلقه، هدفا ومقصدا، كونه الوسيلة الاتصالية، من ناحية، ومقاربة حضارية لعرض المواقف، ووزنها من حيث القبول والرفض، أي القابلية للتسوية/ التنازل، وصولا إلى إقرار مبدأ تبادل الآراء، لإيجاد حلّ للانسداد، من ناحية ثانية.
لا يمكن الاعتقاد أنّ الانسداد السياسي الرّاهن بأمد زمني غير محدود، بل إنّ مجرّد تمسّك قيادة الأركان بالمبدأ الدّستوري لحلّ الأزمة يعني أن الموعدين المذكورين للانتخابات ولنهاية عهدة الرئيس المؤقت يشكلان الهاجس الرّئيس، المحفّز على الذّهاب إلى هذا الحوار ومحاولة الإنصات لوجهتي نظر الحراك والنظام. ولعلّ روحانية شهر رمضان فرصة للقاءٍ يكون من ثماره انطلاق مسار هذا الحوار/ التّفاوض، ولو في جلسات الإنصات الأولى، ثم التّفاهم والاتّفاق على مبادئ تحكم الحوار من حيث الممثّلون، الضمانات، روزنامة الجدول الزّمني، ثم المقصد، وهو الدّخول في مرحلة انتقالية حقيقية تنتهي بانتخاباتٍ، تضمن العودة إلى الوضع السياسي الطبيعي، ولكن بمبادئ مغايرة للتي سادت خلال العقدين الأخيرين.
وقد بدا أخيرا أفق لحلٍّ جاء من نداء رفعته شخصيات وطنية دعت، من خلاله، إلى الحوار بين الحراك (ممثليه) والجيش بشأن نقاطٍ حيوية، تتعلق كلها بإدارة المرحلة الانتقالية، تجاوز تاريخ 4 يوليو/ تمـــوز، واقتراح خريطة طريق واضحة، تأخذ في الاعتبار مطالب الحراك بالتغيير الحقيقي، من خلال إجراءات ملموسة، تجمع بين محاربة الفساد والانطلاق في مسار سياسي جاد، يؤدي إلى بناء الجمهورية الثانية.
آفاق الحراك.. إلى أين؟
يعد هذا العمل الحضاري المتمثل في الحراك تكملة لمسار أزمة طويلة وعميقة، اتّسمت بسلمية
يحتاج الإصرار على الدّفع نحو تبنّي هذا المسار الحواري إلى مرافقة من الإعلام الذي عليه أن يفتح نقاشاتٍ توعوية لمدى حيوية الخطوة بالنسبة لإيجاد حل للأزمة. كما سيحتاج هذا الإصرار إلى ثقل شخصيات وطنية، تلقي برصيدها المعنوي على الساحة، لتشكل عامل الثقة بمقصد بناء الجمهورية الثانية.
خيارات النّظام والحراك تضيق كلما اتّسع المدى الزّمني للانسداد، وهي خيارات تتمحور، الآن، حول البدء في الإصرار على حوارٍ غير مشروط، يكون منطلقه عدم قُدسية تاريخ الانتخابات، ورهان هذا المسعى الحيوي هو الحفاظ على استقرار البلاد، وبعث الآلة الاقتصادية التي لا يمكنها الاستمرار في البطء الذي تدور به، مع ما لذلك كله من تبعاتٍ على الوضع الاجتماعي في المستقبل المنظور.
وقد أكدت تظاهرات الجمعة إصراراً من الحراك على إيصال مطالبه إلى مرحلة التّجسيد، وهو ما يجب أن يُقابله النّظام بمبادرة فسح المجال للتأكيد أن الانتخابات حيوية، ولكن يمكن التفاوض بشأن تاريخها، كما يمكن التّفاوض بشأن المرحلة الانتقالية، وفق ما سبق ذكره، وذلك كلّه في صالح الجزائر ومقصد بناء الجمهورية الثانية.