حدود بين الضحك والبكاء

24 سبتمبر 2015
الحدود السورية العراقية (فرانس برس)
+ الخط -
كيف حدث هذا أول مرّة؟ تبدو فكرة غريبة، وأحياناً.. مضحكة! أن نكتسب هويّتنا وانتماءنا من فكرة حدود بين أرضين. يشغلني هنا، في هذه الأرض، حزنٌ عراقي خالص تماماً، تشغلني أغاني السواد، أحزان الوجوه الصامتة، دجلة والفرات، وتمتد روحي من أول البصرة حتى آخر الحدود بين بلدان الجوار..


في مكان قريب جداً، فتاة أعرفها، نعود بجذورنا لذات العائلة القديمة، لكن ما يشغلها لا يشغلني، هموم رأسها تختلف تماماً عني، إذ بينما أنشغل بفكرة بغداد، تتأمل كثيراً فكرة دمشق. وما بينهما أرضٌ شاسعة وحدود.

قبل سنتين أو أكثر كنت هناك، قريباً من الحدود السورية العراقية، مررتُ من هذا السياج القاسي المفروض، لا أقول عنه قاسياً لأنه فرّق بين ترابين، لكنه كان كذلك على الأرض فعلاً، صحراء شاسعة، سياج قاس ومخيف، وعلى الجانب العراقي تمتد مئات المخيمات، حيث لجأ من الأرض الأخرى أناس هربوا من الحرب.. مثلما فعلنا ذات يوم، ولجأنا لأرضهم.. آلمتني كثيراً الحدود السورية العراقية، كانت توحي بانقسام تام، بقسوة لا حدود لها، وبشعور اللا اهتمام.. ماذا يجري في الجهة الأخرى؟ لا أدري، وأحياناً.. لا أهتم!..

في المرّة الثانية التي شاهدت فيها حدوداً، كانت قبل أشهر قليلة حينما كنت في منفذ حاج عمران الحدودي مع إيران، وعلى العكس تماماً، كانت الحدود هادئة وجميلة، يتخلّلها الكثير من اللون الأخضر وجبال عديدة.. ومن المنفذ الهادئ تمر سيارات السياح لتعبر، كنت أرى وجوههم تبرق فرحاً، ودهشة، في محاولة التعرف على الأرض الأخرى، والجهة الأخرى من الحدود..

لكن هذا الحال لم يكن هكذا في السابق، أيام الثمانينيات كانت الجبال مشتعلة بالحروب، هذه الأرض المنقسمة الآن هي لشعب كردي واحد، كان حلمه الوحيد منذ أن وُجدت سلاسل الجبال الشاهقة هذه أن يتوحّد، لكنها الحدود، ومخططات السياسة، ومشعلي الحروب.

هذه الجبال الهادئة الوادعة الآن، كانت ناراً قبل عقود، هذه الأرض التي استسلم أهلها للحدود اليوم، وصاروا يأتونها سيّاحاً غرباء، كانت حلماً طويلاً في قلوبهم بأن تكون واحدة.

أتذكّر بعدما انهارت الدولة العراقية وتمزّقت حدود بين ما بيننا وبين دول الجوار، صرت حين أسير في الشارع أسمع كثيراً لهجة مختلفة، لهجة قادمة مما وراء الحدود، لهجة شامية محبّبة، ووجوهاً لا تشبه تلك التي هنا.. وعلى الجانب الآخر، كان العراقيون يذهبون لاستكشاف الأرض الأخرى، معاينة الوجوه وزيارة أقارب بعيدين، لم يصافحوا أيديهم منذ عقود طويلة، منذ أن صارت لكل جهة هويّتها الفريدة.

هل انتهت الحدود إذن؟
لن تنتهي.. فعندما كان حزننا العراقيّ يسافر إلى الأرض الأخرى، حيث أول الفرات في سورية.. لم يكن يذهب ليمزّق الحدود، أو يقول للقريب الذي صار آخرَ تعال فلا فرق، بل كانوا يذهبون ليشاهدوا الفرات هناك، الناس وعاداتهم في الأرض الأخرى، ليسمعوا لهجة مختلفة، وعمارة مختلفة، وملامح تغيّرت تماماً.. وحين كانوا يعودون، ملء ملامحهم دهشة، يقولون: إنهم يختلفون عنا.. وفيهم بعض شبه.

(العراق)
المساهمون