حاشية على الولاية الخامسة لبوتفليقة

23 فبراير 2019
+ الخط -
يَشيع في اللغة العربيّة المعاصرة استعمال عبارات على شاكلة "الولاية الرئاسية" أو "المدّة الرئاسية"، فيما يشيع في اللغة السياسية الجزائريَة استعمال "العُهدة الخامسة"؛ وكأنّ من يحكمون الجزائر أصحاب عَهد، والجزائريين معاهدون؛ والأصحّ أنّ أهل الجزائر في الظروف العادية مواطنون أحرار فيها، وليسوا على عهدة أحد سوى عهدة الوطن الرمزية، ولا من يحكمُ الجزائر من حفظَة العهد، إذْ هم أكثر الناس نكثاً بها. عموماً، ليس المقال مناقشةً لهذه العبارة التي تسرق من المقدّس ما تسرق، وتُحدث من الشعور بالأمن النفسي ما لا يوجد في الواقع، وإنّما المقال لتقديم ملاحظاتٍ بشأن ترشح الرئيس الثمانيني، عبدالعزيز بوتفليقة، لحكم الجزائر خمس سنواتٍ أخرى، بعد أن حكمها عشرين سنة. لا يعدّ ترشح بوتفليقة أمراً مستغرباً أو مستبعداً، حتى بالنسبة للمراقب غير المتخصص في الشأن الجزائري، وإن كان هذا الخيار ثانوياً حتى بالنسبة للنظام، نظراً لصحّة الرئيس، فالنظام الحاكم لا يَملك ثقافة سياسية ديموقراطية، ولم يُنتج نخبةً إصلاحية من لدنه، ولم يكوّن جيلاً جديداً لديه من الرصيد الكاريزمي ما يسمح بإطالة عمر النظام، ولو بوجود طبقةٍ جديدةٍ أكثر قدرةً على مجابهة تطوّر الحياة السياسية وتعقدّها بأفكار جديدة. أضحى النظام الحاكم في الجزائر نادياً اجتماعياً مغلقاً يضمّ في عضويته طيفاً واسعاً من الذهنيات والطبقات التي تشترك في قيمة واحدة، هي العمل بكلّ الطرق الممكنة لإطالة عمر النظام، حتّى باستبدال جسد الرئيس بروحه التي تسكن صورة ملوّنة تعتلي المسارح والمنابر، تحضر بهالتها القدسية التي تسكن أنفس أعضاء النادي السلطوي، فيما تسكت عن الكلام إلا في حدود الرسائل المقروءة من رجالات النظام.
النظام الحاكم في الجزائر هو خليط ممّا أبقت السلطوية من "جبهة التحرير" التاريخية، و"التجمع الديموقراطي" الذي أُسس لمعاقبتها ومجموعة من الأحزاب التي صعدت على أكتاف
 الدعاية المضادّة على الإسلاميين طوال التسعينيات، لتنتهي بصفقة خيالية المكاسب مع النظام، بعد أن صدّق بعضهم أنّهم ليبراليون أو اشتراكيون فعلاً. تزوّد جبهة التحرير الوطني النظام بكتلةٍ بشريةٍ واسعةٍ من المناضلين، سوادهم الأعظم من الأرياف والمناطق الداخلية من ذوي المستويات العلمية والمداخيل المحدودة والمحاربين القدامى وأولادهم وأحفادهم، تدعمهم تشكيلاتٌ مدنيَةٌ سلطوية نسوية وفلاحية ونقابية. فيما تزوّد الأحزاب الأخرى، خصوصاً التجمع الوطني الديموقراطي، النظام بطبقة متعلّمة من خريجي المدرسة العليا للإدارة وجامعات المدن الكبرى الذين لا يستطيعون الحديث لدقيقة من دون الاستعانة باللغة الفرنسية التي لا يتمكّنون منها، والذين يتعاملون بتكبّر حتّى مع قيادات الجبهة الذين يميلون نحو الشعبوية المفرطة، والجهل التواصلي، والذين تحولوا إلى شخصياتٍ سياسيةٍ كوميديةٍ، لا يكاد المرء يفهم من حديثهم شيئاً.
ويرتبط النظام الحاكم ارتباطاً وثيقاً بطبقة نافذةٍ من رجال المال الذين استفادوا من لبرلة اقتصاديةٍ مشوهةٍ، ومن تسهيلاتٍ إداريةٍ وماليةٍ، المعيار فيها الولاء للنظام، أو الولاء الشخصي للرئيس كما يحبّذون تسميته. ولا تُفهم حاجة النظام لإيجاد طبقةٍ من رجال الأعمال، كونه يسيطر بالكامل على ريع النفط والغاز، إلا لناحية رسم حدودٍ لدائرة السوق، يكون الولوج إليها بالولاء للنظام، لينتج النظام بذلك دكتاتوريتي السياسة والسوق، إذ لا يُسمح لأحدٍ الحصول على النفوذ من دون حدّ أدنى من التنازلات السياسية التي يغذّيها، في غالب الأحيان، ما يُشاع عن أصحاب الرساميل من جبنٍ وخضوع يترافق مع سلاسة المرور والعمل وصنع الثروة.
أمّا عن دور الجيش، فقد حُيّد عن السياسة ورُبط قائده بالرئيس. (تماماً كمأزق النظام الحاكم في حسم مسألة بديل بوتفليقة، يوجد مأزق مثله في قيادة الجيش يخصّ ما بعد القايد صالح). ولكن هذه العلاقة أوجدت مسألتين إشكاليتين رئيسيتين: الأولى، إعادة تعريف ابتعاد العسكر عن السياسية، باعتباره حياداً سلبياً لصالح النظام، وهذا حكمٌ صحيحٌ في الواقع، لكنّه ذو محاذير وخيمة في المستقبل، فإن كان وقوف قيادات الجيش في منطقة صالح النظام غير صحيّ، فإن وقوفها في منطقة صالح المعارضة، معطوفاً على ثقافتها السياسية غير الديمقراطية، سيرجع عدّاد الديموقراطية إلى الصفر، فالجيوش (خصوصاً الجزائري) لا تنقلب عن السياسة ليحكم غيرها، بل للعبور من منطقة الحصول على الامتيازات إلى منطقة إيجاد الامتيازات وتوزيعها وإعادة توزيعها، بل إلى منطقة ابتلاع السياسة والاقتصاد والمجتمع. المسألة الثانية، نزوع النظام الحاكم إلى بولسَة السياسة، وتحويل أدوات القمع التقليدية التي يسيطر عليها الجيش والمخابرات إلى أدوات قمعٍ جديدة، تُسيطر عليها وزارة الداخلية التابعَة مباشرة إلى الرئيس ومحيطه وأحزابه، والخطر في ذلك أنّ هامش التفاوض على شكل القمع وحجمه يتمّ تصفيره، فتطلَق بذلك يد الداخلية على الناس والمعارضين، أسوةً بنظام بن علي في تونس أو نظام حسني مبارك في مصر في مرحلة ما.
أضحى النظام الحاكم في الجزائر يعيش تحت رحمة البيولوجيا وضغط صحّة الرئيس وتطوّر حالته؛ يُصارع الزمن للوصول إلى مرحلة ما بعد انتخابات إبريل/ نيسان 2019، ويقف بهستيريا أمام أيّ تسرّب لوضع الرئيس، أو لأسرار محيطه وخباياهم، على الرغم من أنّ 
الجميع يعرف نفوذ أخي الرئيس والقريبين منه. كما تحوّل الكلّ فيه إلى آلة دعايةٍ كبرى، تكثّف إنتاج الكذب السياسي، وتخوّف بطريقة هوبزية من العودة إلى حالة العشرية السوداء، وتستثمر استثماراً كاملاً في فشل بعض تجارب الربيع العربي، خصوصا التجربتين الليبية والسورية، وتحوّل هذه المآسي إلى مكاسب لترميم الشرعية الداخلية المهترئة، وتسخّف أي شخصٍ يقف في وضعية تنافسٍ مع بوتفليقة بعجرفة وتكبّر سياسيين.
وتتعلق الدعاية الكبرى الحالية للنظام بإطلاق حوارٍ وطني، وإصلاحات سياسية يشترك فيها الجميع، بهدف تعزيز الديموقراطية، مع جعل فوزِ بوتفليقة شرطاً مسبقاً لذلك. تحمل هذا الدعاية تناقضاً داخلياً صارخاً، وكذباً سياسيا معهوداً؛ فمن ناحية، ترشح بوتفليقة هو تصفير لعداد الديموقراطية، ونسف لنضال الثمانينيات وتراجيديا التسعينيات. ومن ناحية أخرى، تعوّد مسمع الجزائريين على هذه الوعود التي تكررت في 1999 و2004 و2009 و2014. وسبب عدم وفاء النظام بوعوده كلّ المرّات أنّه نادراً ما يجد نفسه في موقف ضغطٍ سياسي ديموقراطي فعلي؛ فالمعارضة مكبّلة بالإدارة وغياب قيادات كاريزمية وانقساماتها الداخلية وموقفها المتردّد بدافع المصلحة مع النظام، والمجتمع مكبّل بواقعه الاقتصادي، هذا كلّه معطوفٌ على غيابِ نخبٍ ذات ثقافة ديموقراطية ومصداقية مجتمعية، تملك القدرة على التأثير. ومع كلّ ما تحمله السياسة من ضبابيةٍ، ولا يقين، فقد تَرشّحَ بوتفليقة ليَفوز، أو بعبارة أصّح رُشِّحَ ليفوز، مع تحفظٍ تامٍ على جعله في وضع المفعول به، إذ إنّ حكماً كهذا قد يُخرجه منتصراً متلبساً بثوبِ الضحيّة، وهذا غير صحيح؛ إذْ لم يكن بوتفليقة ديموقراطياً في أي يوم.
4B2FBF0A-B9D0-45E8-BB60-FC5241F9CD45
4B2FBF0A-B9D0-45E8-BB60-FC5241F9CD45
بلقاسم القطعة

طالب جزائري في معهد الدوحة للدراسات العليا

بلقاسم القطعة