15 مايو 2024
جيش العراق والأمن الداخلي
تأسس الجيش العراقي في عهد الانتداب البريطاني مع بداية تسنم الملك الراحل فيصل الأول قيادة مرحلة بناء الدولة الحديثة للبلد الذي كان قد عانى فترات طويلة في العهد العثماني والاحتلال الفارسي وسواهما، ما جعله متأخراً بقرون عن حركة التطور المدني والاقتصادي والسياسي العالمي. ومنذ عام 1921، حين تأسست أولى وحداته، كان هذا الجيش في واجهة كل محاولات التغيير والانقلابات في العراق، بدءاً من انقلاب عام 1936 بقيادة الفريق بكر صدقي، وانتهاءً بحرب الدفاع عن الوطن ضد الغزو الأميركي - البريطاني، مروراً بثورة الاستقلال عام 1958 والانقلاب الفاشل للعقيد عبد الوهاب الشواف عام 1959 وانقلابي عام 1963 (فبراير/ شباط ونوفمبر/ تشرين الثاني) وثورة 1968، ثم محاولات الانقلاب العديدة المعلنة وغير المعلنة، حتى عام 2003.
يؤكد تاريخ جيش العراق أنه كان الأداة الفاعلة الوحيدة للتغيير في العراق، كما يؤكد أن أية تنظيمات سياسية أو شخصيات نافذة لم تستطع الوصول إلى سدة الحكم، أو محاولة إنهاء الواقع الفاسد، ما لم تستعن بقيادات عسكرية عراقية، نجحت هذه المحاولات أم تم وأدها أو فشلت.
بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، كان قرار الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر، في مايو/ أيار من العام نفسه، "حل وزارتي الدفاع والإعلام والأجهزة التابعة لها وقوات الحرس الجمهوري ومحاكم أمن الدولة وتسريح مئات آلاف الضباط والجنود والموظفين العاملين فيها،
وكذلك تعليق عمليات التجنيد للخدمة العسكرية"، يمثل واحدا من أهم القرارات الاستراتيجية التي رُسِمَ لها بعناية مركزية من دوائر القرار في واشنطن ولندن وتل أبيب قبل تنفيذ غزو العراق بما لا يقل عن سنتين، نظراً إلى ما توصلت إليه الدراسات والتحليلات الاستراتيجية الخاصة بعقيدة الجيش العراقي القتالية أولاً، ثم إمكانات كل صنوف هذا الجيش وقياداته وقدراته على إحداث التغيير في الوقت المناسب، بسبب الخبرات المتراكمة لديه، والمتأتية من حروب داخلية وخارجية، كحروب فلسطين (1948- 1967 - 1973) وحرب الشمال مع الأكراد وحرب السنوات الثمانية مع إيران (1980-1988) ثم حرب الكويت 1991، وأخيراَ حرب الدفاع عن العراق عام 2003.
وبعد تزايد أعمال المقاومة العراقية للقوات الأميركية، بدأ قائد قوات التحالف في العراق، الجنرال ريكاردو سانشيز، بالدفع باتجاه تشكيل قوة تكون بوجه التعامل مع المناطق الملتهبة. وعلى هذا الأساس، صدر أمر سلطة الائتلاف رقم 22 الخاص بتأسيس قوات عسكرية عراقية خلال سنة ونصف السنة، لا يتجاوز عديدها 40 ألف شخص، موزعة على ثلاث فرق. والمهم في القرار أن تكون هذه الفرق تحت السيطرة المباشرة للجيش الأميركي، وأن تركز واجباتها في حفظ الأمن الداخلي. وأنيطت مهمة الإشراف على تشكيل هذه الفرق إلى الجنرال الأميركي، بول آيتن، الذي اكتشف، بعد استلامه المهمة، أن سلطة الائتلاف غير مهتمة فعلاً بإعادة بناء جيش عراقي حرفي ووطني، قدر اهتمامها بالتدقيق في ماهية المتقدمين للعمل في هذه الفرق، والتأكد من عدم ارتباطهم بحزب البعث، أو عدم العمل في الجيش العراقي المنحل. وقد استثمرت الأحزاب والقوى التي جاءت مع قوات الاحتلال، أو التي انخرطت في العملية السياسية، هذه الشروط، لتدفع عناصرها ومؤيديها للتطوع في الجيش الجديد، كما رشحت ضباطاً كانوا معارضين لنظام صدام حسين، أو مطرودين من الجيش العراقي الوطني لأسباب سياسية أو عسكرية.
ومع تطور الأحداث، وتشكيل الحكومات العراقية بدءاً من عام 2005، كرست أحزاب السلطة جهودها من أجل تعبئة الجيش الجديد بعناصر تابعة لسلطانها وإرادتها. وعلى الرغم من مشاركة دول عديدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) وغيرها في تدريب هذا الجيش، إلا أنه بدا أشبه بالشرطة منه إلى الجيش، كما أصبح، بعد مرور السنوات، كياناً بلا هوية حقيقية، بسبب افتقاره إلى أية عقيدة عسكرية، حتى جاءت تجربة الموصل وتنظيم داعش الإرهابي التي كشفت عن عورات الجيش الجديد بشكل مُهين.
منذ هزيمة الموصل عام 2014 وما تلاها، خبت رايات الجيش الجديد، لتظهر رايات جديدة أشد وطأةً على الشأن الداخلي العراقي، تمثلت بمليشيات الحشد الشعبي الذي أصبح، بعد فترة وجيزة من تأسيسه، صاحب الصوت الأعلى في ساحات القتال، بما يحمل أفراده من عقيدة "جهادية"
وانتماءات حزبية، وأيضاً بما حصل عليه من دعمٍ حكومي وإقليمي، وكانت فترة انتظار إكمال الحشود والتعبئة لتحرير المحافظات والمدن العراقية من قبضة تنظيم داعش مهمة جداً في سِفر الجيش العراقي؛ حيث تتم تعبئته تلقيناً بعقيدة عسكرية محدّدة، منعاً لتبلور أية عقيدة وطنية في الظروف الصعبة التي عاشها العراق، سياسياَ وأمنياً واجتماعياً. كانت العقيدة البديلة عن العقيدة الوطنية هي "مكافحة الإرهاب"، فيما تركت مهام الأمن القومي للعراق لتشكيلات منتخبة من الحشد الشعبي، وكذلك لقوات مكافحة الإرهاب (المدرّبة والمجهزة أميركياً بشكل جيد).
تثبت التجارب والمِحن التي مرَ بها العراق أكثر من عِقد أن جيش العراق المتشظي أفقياً وعمودياً، بحسب انتماءاته الطائفية والفصائلية والحزبية، غير قادر على أن يكون القوة القادرة على وضع الأمور في نصابها، على الرغم من تراجع أوضاع العملية السياسية في العراق خلال هذه الفترة، وزيادة النقمة الجماهيرية على عموم الأوضاع في جميع المحافظات، باستثناء منطقة إقليم كردستان، حيث لم تهدأ التظاهرات ولا الاحتجاجات منذ عام 2010. ولعل الانتفاضة المستمرة منذ الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2019 تمثل تتويجاً لحالة عدم الرضا القصوى للشعب العراقي، وخصوصا أبناء محافظات الوسط والجنوب، بالإضافة إلى العاصمة بغداد، وهي التي تشكل نسبة العسكريين فيها الحصة الأكبر من الجيش.
تظهر طريقة تعامل الجيش مع الاعتصامات والتظاهرات أن عمليات وأدها أو محاولة إيقافها تتم بطريقة غير إنسانية وغير حقوقية، وهذا واضح من حجم الخسائر في الأرواح وعمليات القتل بدم بارد في صفوف المتظاهرين، وأيضاً انعدام المساءلة أو أية تبعات قانونية على من أصدر الأوامر باستخدام العنف المفرط، وهو ما يقود إلى الحقيقة التي ربما تظهر بوضوح أن الجيش في العراق أداة تنفيذية، تمت برمجتها لحماية النظام، وهو يقوم بذلك على أكمل وجه. لذلك حتى لو افترضنا جدلاً أن رغبة لدى قادة معينين من هذا الجيش بإحداث انقلاب عسكري، أو الضغط باتجاه تغيير ما، فإن القطعات التي في إمرتهم لن تنفذ باعتبار أن مرجعيتهم الأصيلة لأحزابهم. ثم لأن البناء النفسي والمعنوي، منذ تأسيس الجيش الجديد، اعتمد، وما زال، على عقيدة أن واجب هذا الجيش هو "حفظ الأمن الداخلي"، بمعنى اعتبار كل حركة احتجاجية على الوضع القائم مخلة بالأمن، وقد تصل إلى حد وصفها بـ"إرهابية"، ويجب التصدّي لها.
بعد غزو العراق واحتلاله عام 2003، كان قرار الحاكم المدني الأميركي، بول بريمر، في مايو/ أيار من العام نفسه، "حل وزارتي الدفاع والإعلام والأجهزة التابعة لها وقوات الحرس الجمهوري ومحاكم أمن الدولة وتسريح مئات آلاف الضباط والجنود والموظفين العاملين فيها،
وبعد تزايد أعمال المقاومة العراقية للقوات الأميركية، بدأ قائد قوات التحالف في العراق، الجنرال ريكاردو سانشيز، بالدفع باتجاه تشكيل قوة تكون بوجه التعامل مع المناطق الملتهبة. وعلى هذا الأساس، صدر أمر سلطة الائتلاف رقم 22 الخاص بتأسيس قوات عسكرية عراقية خلال سنة ونصف السنة، لا يتجاوز عديدها 40 ألف شخص، موزعة على ثلاث فرق. والمهم في القرار أن تكون هذه الفرق تحت السيطرة المباشرة للجيش الأميركي، وأن تركز واجباتها في حفظ الأمن الداخلي. وأنيطت مهمة الإشراف على تشكيل هذه الفرق إلى الجنرال الأميركي، بول آيتن، الذي اكتشف، بعد استلامه المهمة، أن سلطة الائتلاف غير مهتمة فعلاً بإعادة بناء جيش عراقي حرفي ووطني، قدر اهتمامها بالتدقيق في ماهية المتقدمين للعمل في هذه الفرق، والتأكد من عدم ارتباطهم بحزب البعث، أو عدم العمل في الجيش العراقي المنحل. وقد استثمرت الأحزاب والقوى التي جاءت مع قوات الاحتلال، أو التي انخرطت في العملية السياسية، هذه الشروط، لتدفع عناصرها ومؤيديها للتطوع في الجيش الجديد، كما رشحت ضباطاً كانوا معارضين لنظام صدام حسين، أو مطرودين من الجيش العراقي الوطني لأسباب سياسية أو عسكرية.
ومع تطور الأحداث، وتشكيل الحكومات العراقية بدءاً من عام 2005، كرست أحزاب السلطة جهودها من أجل تعبئة الجيش الجديد بعناصر تابعة لسلطانها وإرادتها. وعلى الرغم من مشاركة دول عديدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) وغيرها في تدريب هذا الجيش، إلا أنه بدا أشبه بالشرطة منه إلى الجيش، كما أصبح، بعد مرور السنوات، كياناً بلا هوية حقيقية، بسبب افتقاره إلى أية عقيدة عسكرية، حتى جاءت تجربة الموصل وتنظيم داعش الإرهابي التي كشفت عن عورات الجيش الجديد بشكل مُهين.
منذ هزيمة الموصل عام 2014 وما تلاها، خبت رايات الجيش الجديد، لتظهر رايات جديدة أشد وطأةً على الشأن الداخلي العراقي، تمثلت بمليشيات الحشد الشعبي الذي أصبح، بعد فترة وجيزة من تأسيسه، صاحب الصوت الأعلى في ساحات القتال، بما يحمل أفراده من عقيدة "جهادية"
تثبت التجارب والمِحن التي مرَ بها العراق أكثر من عِقد أن جيش العراق المتشظي أفقياً وعمودياً، بحسب انتماءاته الطائفية والفصائلية والحزبية، غير قادر على أن يكون القوة القادرة على وضع الأمور في نصابها، على الرغم من تراجع أوضاع العملية السياسية في العراق خلال هذه الفترة، وزيادة النقمة الجماهيرية على عموم الأوضاع في جميع المحافظات، باستثناء منطقة إقليم كردستان، حيث لم تهدأ التظاهرات ولا الاحتجاجات منذ عام 2010. ولعل الانتفاضة المستمرة منذ الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2019 تمثل تتويجاً لحالة عدم الرضا القصوى للشعب العراقي، وخصوصا أبناء محافظات الوسط والجنوب، بالإضافة إلى العاصمة بغداد، وهي التي تشكل نسبة العسكريين فيها الحصة الأكبر من الجيش.
تظهر طريقة تعامل الجيش مع الاعتصامات والتظاهرات أن عمليات وأدها أو محاولة إيقافها تتم بطريقة غير إنسانية وغير حقوقية، وهذا واضح من حجم الخسائر في الأرواح وعمليات القتل بدم بارد في صفوف المتظاهرين، وأيضاً انعدام المساءلة أو أية تبعات قانونية على من أصدر الأوامر باستخدام العنف المفرط، وهو ما يقود إلى الحقيقة التي ربما تظهر بوضوح أن الجيش في العراق أداة تنفيذية، تمت برمجتها لحماية النظام، وهو يقوم بذلك على أكمل وجه. لذلك حتى لو افترضنا جدلاً أن رغبة لدى قادة معينين من هذا الجيش بإحداث انقلاب عسكري، أو الضغط باتجاه تغيير ما، فإن القطعات التي في إمرتهم لن تنفذ باعتبار أن مرجعيتهم الأصيلة لأحزابهم. ثم لأن البناء النفسي والمعنوي، منذ تأسيس الجيش الجديد، اعتمد، وما زال، على عقيدة أن واجب هذا الجيش هو "حفظ الأمن الداخلي"، بمعنى اعتبار كل حركة احتجاجية على الوضع القائم مخلة بالأمن، وقد تصل إلى حد وصفها بـ"إرهابية"، ويجب التصدّي لها.