بعد توقفه عن الإخراج 10 أعوام متتالية، عاد الفنان التشكيلي والمُخرج الأميركي جوليان شنايبل (1951) إلى السينما مع "عند بوابة الأبدية"، الذي تناول الفترة الأخيرة من حياة الرسّام الهولندي فانسنت فان غوغ (1853 ـ 1890)، وهو الروائي الخامس في مسيرته السينمائية، التي تركِّز على تقديم حياة فنانين وأدباء. فيلمه الأول "باسكيات" (1996) عن التشكيلي الأميركي جان ميشال باسكيات (1960 ـ 1988).
انشغاله كفنان تشكيلي بحياة الرسّامين ليس غريبًا، لكن اشتغاله على حياة فان غوغ غريبٌ. فالغرابة مُتأتية من وجود كمّ هائل من الأفلام الروائية والوثائقية وأفلام التحريك المصنوعة عن حياة الرسّام الهولندي وأعماله، بعضها لمخرجين كبار، فبات التصدّي لهذا الموضوع وصنع فيلم عنه مُغامرة شديدة الخطورة، وربما لا طائل منها. شنايبل تشكيليٌّ أساسًا، وهذا مُساعد له على تناول الموضوع باختلافٍ ملحوظ، في الصورة والسيناريو والطرح، رغم انتماء فان غوغ إلى المدرسة ما بعد الانطباعية في الرسم، البعيدة كلّيًا عن عوالم شنايبل ولوحاته المعاصرة جدًا، التي تغلب عليها التجريدية، وأحيانًا الكلاسيكية المُعاصرة، إلى جانب الكولاج. وهذا كلّه لا صلة له بعوالم فان غوغ ولوحاته.
جوليان شنايبل غير منتمٍ إلى "سينما المؤلّف"، منذ بداية اشتغاله السينمائي عام 1996. سيناريوهات أفلامه يكتبها آخرون، وأحيانًا يشترك في كتابتها مع سيناريست أو أكثر. وهذا منطبق على "عند بوابة الأبدية"، المأخوذ عنوانه من لوحة بالغة الحزن، رسمها فان غوغ لعجوز بائس يخفي وجهه من فرط الحزن والتعب. السيناريو للفرنسي جان ـ كلود كارييير (1931) والبريطانية لويز كوغلبيرغ وبمشاركته، فيبدو جليًا مدى تأثير المُخرج على الكتابة. ربما ترك شنايبل الحوار وتفاصيل مختلفة للكاتبين الآخرين، بناء على اقتراحه.
افتراض تدعمه المحاور الرئيسية الذكية للفيلم، ومشاهد مُصوَّرة كثيرة عن قصدٍ بحدّ ذاتها. لم يقع شنايبل في فخّ تصوير آخر 10 أعوام من حياة فان غوغ كرونولوجيًا. لذا، لا يتتبع السيناريو تلك الأعوام بشكلٍ متتالٍ، بل يطوي أعوامًا عديدة منها ويُسقط أحداثًا مختلفة، لصالح أعوام وأحداثٍ محدّدة. مثلاً: بعد لقاء تمهيدي بين فان غوغ (ويليام دافو، 1955) وبول غوغان (أوسكار اسحاق، 1979) في باريس نهاية القرن الـ18، يُعلن الأول تذمّره من باريس وجوّها وقتامتها، ومن افتقاده الإلهام، فيتبع نصيحة الثاني ويذهب إلى جنوب فرنسا ليرسم. وهذه هي الفترة الأخيرة من حياة الهولندي، باضطراباتها ولوحاتها المُدهشة.
ثم يحدث انتقال سريع إلى الحياة الريفية لفان غوغ. تمرّ الأعوام سريعًا، مُبرزة أهم المحطات واللحظات المحورية الفارقة في حياته: عمق علاقته بغوغان؛ التنافس والنقاش بينهما بخصوص الأساليب الفنية، ورغبتهما في التمرّد على السائد؛ نصيحة غوغان لفان غوغ بضرورة التروّي والهدوء وعدم الاندفاع في الرسم وغيرها من النصائح؛ إلخ. هذه الفترة تنتهي بمغادرة غوغان، تاركًا فان غوغ وحيدًا، ما أفقده صوابه، ودفعه إلى مزيدٍ من الجنون، إبداعيًا وأسلوبيًا وصحّيًا ونفسيًا؛ ثم دخوله إلى "مستشفى وملجأ سان بول" في "سان ريمي دو بروفانس"، في مايو/ أيار 1889، ومكوثه فيها عامًا واحدًا، إثر الحادثة الشهيرة: قطع أذنه.
رغم مرضه، والفترة الحرجة صحيًا في حياته، أنتج فان غوغ في المستشفى أكثر من 150 لوحة. لكن، يصعب أن يجهل المهتمّون والمتابعون تفاصيل كهذه. فما الجديد الذي يُقدّمه شنايبل وكاتبا السيناريو؟ يرصد الجديد فترات ومواقف وأحداثًا معينة، ويُركّز على وحدة الفنان في أعوامه الأخيرة، ورغبته في أن يكون مقبولاً على الأقلّ، لا أن يكون محبوبًا من المحيطين به، وأن يكون له أصدقاء أو شخصٌ صادق يحبه بإخلاص ويؤمن بموهبته كشقيقه. فهل كان فان غوغ يرسم بجنون في تلك الفترة هربًا من وحدته، ومحاولة لإيقاف ذهنه عن التفكير المُفرط؟
هذا يوضحه جوليان شنايبل في "عند بوابة الأبدية". بالنسبة إليه، قطع فان غوغ أذنه ليهديها إلى بول غوغان، بعد أن لفّها في ورقة كتب عليها "مع حبي". الدافع الأساسي لجنونه هو الوحدة وافتقاد الحب، وهو واعٍ بهذا، وبِعِلَّتِهِ أيضًا. أكثر من مرة، صارح شقيقه (أبرزها ذلك المشهد البديع في المستشفى، وهما مستلقيان معًا على السرير) بمرور لحظاتٍ عليه لا يعرف خلالها ما يحدث له، وبخوفه منها، وبأنّ عقله يُفسح المجال أكثر لما هو ظلاميّ ومُثير للقلق والاضطراب.
يحمل "عند بوابة الأبدية" ـ المعروض في المسابقة الرسمية للدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ وجهات نظر عديدة في السيناريو مُغايرة، تحمل الكثير من الجِدّة، وتثير جدلاً كبيرًا: هل توفّي فان غوغ مقتولاً على أيدي شابين اثنين متربّصين به؟ أم أنه انتحر؟ تفصيلة كهذه تنضمّ إلى تفاصيل عديدة يصعب تفنيدها.
برزت بصمة شنايبل ورؤيته في السيناريو، كما على المستوى البصري. الرؤية التشكيلية طاغية بشدة على لقطات كثيرة. تكفي سيادة الأزرق والأخضر والأصفر كألوان أساسية طبيعية، تُعمّق عيش اللوحات. وهذا منطبق على مَشَاهد عديدة، مُستوحاة مباشرة من لوحات الفنان الهولندي، أو تلك التي أبدعتها مُخيلة شنايبل، فنفّذها مدير التصوير الفرنسي بونوا دولوم (1961). هناك أيضًا استخدام كثير لـ"الفلاتر" اللونية بدرجات مختلفة، وللعدسات المتنوّعة، لإبراز جمال الطبيعة، ولكاميرا متحركة جدًا، بالإضافة إلى التلاعب بها على نحو اهتزازيّ لنقل الحالة الذهنية لفان غوغ.
للفواصل السوداء دور مهمّ من حين إلى آخر في سماع الصوت الداخلي للفنان الهولنديّ، وهي تمنح مفاتيح لفهم تطوّر الشخصية أو لسماع فلسفته التأمليّة. بالإضافة إلى الفواصل والتعليق الصوتي لويليام دافو، أبرز الحوار الفلسفي المشوّق جوانب أخرى، أهمّها وجهة نظر فان غوغ عن الفن ورسومه والدين، كما عن شخصيته وحياته. وتجلّى أقواها في حواره مع القسيس، قائلاً له إنّ الله بعثه كفنان إلى بشرٍ لم يولدوا بعد، وإنّ الأجيال المقبلة ستُقدِّره وتفهمه، وإنّ المسيح عندما كان حيًا "لم يكن معروفًا ولا مشهورًا".
لهذا كلّه، لم يكن ممكنًا لمغامرة جوليان شنايبل مع فان غوغ أن تنجح لولا إسناد دور الفنان الهولندي إلى ويليام دافو، فلم يكن مفاجئاً فوزه بـ"كأس فولبي" كأفضل ممثل في مهرجان فينيسيا نفسه. وهذا غير مرتبط بالشكل فقط (إطلاق اللحية وصبغها بالأحمر، وارتداؤه قبعة قش، ونحافة الوجه وقسماته الصلبة، إلخ)؛ فعبقرية الممثل تتخطى هذا كلّه إلى التماهي بالشخصية، فيصعب عندها عدم الاقتناع بأنه هو فان غوغ نفسه.