جوعٌ قديم

11 أكتوبر 2014
يركض رفاقه لشراء المنقوشة، لكنه ينتظر والده ليعطيه مصروفه(Getty)
+ الخط -

يرنّ الجرس معلناً وقت استراحة التلاميذ. يركض هؤلاء نحو الكشك لشراء "المنقوشة" أو عرائس اللبنة والجبنة والشوكولا. لن يكون هذا خيارهم جميعاً بطبيعة الحال، لكنه كان مقتنعاً بذلك حدّ اليقين. يوهمهم أنه يتصرّف على طبيعته، لكنه متوتّر. وحده يكترث لهم، عيناه تركضان في جميع الاتجاهات، ينتظر قدوم والده ليعطيه 500 ليرة لبنانية، فيشتري الشوكولا والعصير من النوع الأرخص. يخشى أن يراه أحد حتى يكاد ينسى الاستمتاع بما كان يتوق إليه.

في الليل، ينتظر والده ولا يأتي، تدغدغه معدته، يضغط عليها بكفيه حتى يكاد يخنقها، لكنها لا تموت. يطارده الحلم في نهاره: هل سيأتي والده ويأخذ مصروفه؟ أم أنه سيصعد إلى الصف من دون أن يرفع يديه ووجهه عالياً وهو يأكل الشوكولا، فيؤكّد أنه مثلهم جميعاً؟ يحاول ووالده الاختباء عن أنظارهما أولاً قبل الآخرين، ولن يقتنعا يوماً أن أحداً لم يرهما.. إنه الفقر.

---

لم يتصالح تماماً مع ماضيه، فضّل التعتيم عليه، لا يريد رؤيته حتى يتفرغ لما هو غير القصاص منه. الحاضر أبدى والبقاء للمستقبل. لكن ضوء القمر يُخرجَ بعضاً منه بين الحين والآخر. يبكي ويجوع مجدداً، كأنه لم يشبع في حياته. ذلك اليوم، لم يكن في الثلاجة سوى ملعقة مربى "المشمش". كان جائعاً، لكنه فكر أن أحداً من أشقائه قد يكون جائعاً أكثر منه. لم يسع نحو البطولة، خشي إحساسا بالذنب لن يرحمه، بل سيزيد من جوعه. في تلك اللحظة، كره جميع الأغنيات التي تحكي عن الفقر، وبطولات الفلاحين وكدّهم. لم يحبّ أن يكون بطلاً، أراد أن يتناول عشاءً بسيطاً، من دون أن تُشغله الحسابات طيلة الليل لتأمين طعام اليوم التالي.. إنه الفقر.

---

لم تجع يوماً، لكنها بعد خمسين عاماً، غلبها التعب؛ فقد عاشت حياتها بين ورقة وقلم، حتى تمنت لو كانت أمية. شعرت فجأة أن الجوع قد يكون أهون من العمل على مكافحته طوال الوقت.. إنه الفقر.

ليس للفقر شكل واحد بعكس ما نظن، ولن يكون. تتفاوت درجاته.. لا يكون قوياً حين يقتل أجساداً استوطنها. قوته مرتبطة بحجم تأثيره علينا. لذلك، لكلٍّ منا علاقته الخاصة به. نقنع أنفسنا أننا أحكمنا دفنه، لكن روحه تظل طاغية فوق أرواحنا. ونعيش مستقبلنا لأجل عدم استرجاعه. الفقر لا يقتل دائماً، لكنه يجعلنا رهينة ردات الفعل، كأن نجلب الكثير من الألعاب لأطفالنا. علماً أننا ندرك أن ذلك قد يجعلهم جشعين، أو يحدّ من إبداعهم على الأقل. نفرح بهداياهم أكثر منهم تعويضاً عن "جوعٍ" ما. كأنّ الجوع يبدأ حين نفكّر كيف سنؤمّن قوت يومنا التالي، ولا ينتهي إلا حين ننسى أنه علينا أن نأكل.
دلالات
المساهمون