جنيف والعبث الروسي

06 فبراير 2016
+ الخط -
مع كل الزخم السياسي والإعلامي الذي حفلت به لقاءات جنيف المتعلقة بالأزمة السورية، إلا أنها، في كل مرة، لا تُفضي إلى شئ يُذكر، على أنّ المفاوضات غير المباشرة، هذه المرّة في جنيف 3، تأخذ شكلاً مغايراً، فتجد أن أكثر من يُصرح ويقبل ويرفض ويقرر هي روسيا، لا الطرفان السوريان، حتى أنها تدخلت في من يحق له الحضور من عدمه في وفد المعارضة، بخلاف المؤتمرين السابقين، حين كان يضم المشهد اللاعبين الإقليميين والدوليين.
ما حدث في جنيف يكشف بجلاء أن زمام القضية السورية أصبح بيد الروس، فالأمر برمته لا يعدو كونه جزءاً من استراتيجية موسكو في سورية، والتي بدأته بعدوانها العسكري، بكل وحشيته الصارخة، حين صبت حمم أسلحتها على رؤوس الشعب السوري المثخن بجراحه وآلامه، من آلة القتل الهمجية لعصابة النظام والمليشيات الطائفية منذ خمسة أعوام خلت، فالروس يهيئون مسرح الأزمة لحل سياسي يتواءم مع أهدافهم التي يرتجون تحقيقها، فهم لا يتطلعون، في الوقت الراهن، أنْ تثمر المفاوضات نتائج سياسية، تُوقف جحيم الحرب، فطائراتهم تمارس القتل والتدمير اليومي بحق المدنيين وتعمق مأساتهم ومعاناتهم وتُتيح لقطعان النظام ومليشيات القتلة المجلوبة من وراء الحدود بتحقيق التقدم على الأرض، مهما كلف الثمن، بمعنى أنهم يستميتون، وفي سباق مع الزمن، لفرض الواقع الذي يرمون إليه، في وقت كانت فيه المعارضة تشترط للمشاركة في مؤتمر جنيف أن يتم تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، والذي يُعد لقاء جنيف أحد مضامينه تهيئة للحل السياسي، بل كان تركيز المعارضة على أجزاء من ذلك القرار، وهي المواد المتعلقة بوقف قصف المدنيين وفك الحصار وإنهاء عملية التجويع بحقهم، حيث أكدت المعارضة تلقيها وعوداً وضمانات من الغربيين، لم تكن إلا هباء منثورا، غير أنّ الروس خرقوا هذا القرار باستمرارهم في قصف المدنيين من جهة، ويتحدثون عن عدم جدية المعارضة لتحقيق الحل السياسي الذي أشار له قرار مجلس الأمن، بل يتعدى الأمر إلى اختيار رئيس وفد النظام، والذي من غير المستبعد أن يكون نابعاً من رغبة روسية، فشخصية مثل بشار الجعفري عُرفت بالبذاءة السياسية وترويج الأكاذيب من خلال كونه ممثل النظام في الأمم المتحدة، ليس لقدراته التفاوضية ومهارته السياسية، بل لممارسة دوره المعهود، ولكن في جنيف، لأنه وبكل وضوح لا يملك أي سلطة قرار كرئيسه في دمشق، بل مهمته تقتصر على المناكفة السياسية وممارسة الدعاية السوداء، وربما المزيد من استفزاز المعارضة، والتي يُراد لها أن تنسحب من المفاوضات، حتى يُعلق عليها الفشل، وأنها غير جديّة في تنفيذ قرار مجلس الأمن.
المقدمات تشي بالنتائج، المحصلة الوحيدة لمؤتمر جنيف هي الاعتراف الدولي بأن روسيا هي من ترسم واقع الأزمة في سورية ومستقبلها، وإطلاق يدها لتفعل ما تريد، وذلك في ظل موقف متراخ وباهت لواشنطن، ونزق أوروبي، لا يرى في الصورة غير محاربة داعش، وربما يسرهم أن يكون رأس الحربة في ذلك روسيا، والتي أخذت الثمن لذلك مقدماً بأن تصوغ المشهد السوري كما يحلو لها، حيث لم يعد الغرب يرى رحيل بشار الأسد ضرورة، بل تأجيل ذلك إلى مرحلة انتقالية، إضافة إلى أصوات لا ترى حرجاً في التعاون معه في حربهم على داعش، ولن يكون مفاجئاُ أن تتم إعادة إنتاج نظام الأسد وتجميل قباحته، بإشراك بعض وجوه المعارضة في الحكم. لم يكن استئثار الروس بالقضية السورية ناتجاً عن براعة سياسية، وتخطيط إستراتيجي فذّ، بل هو فشل ذريع لداعمي المعارضة، ومدار الحديث عن الدول الإقليمية التي لم يكن ما تقدمه مؤثراً وذا فاعلية، حيث راهنوا أكثر مما يجب على واشنطن، مع أن القضية تمس الأمن القومي لتلك الدول، وتقع في نطاق مصالحها، فربما كانت مراهنتهم على انهيار ماتبقى من النظام لم يكن سوى تقدير خاطئ للموقف.
الحقيقة المرّة التي لا تخطئها البصيرة هي عذابات الشعب السوري الذي شارك العالم كله في جريمة ذبحه من قتلة محليين ومستوردين، وآخرين يشلهم صمت وتخاذل عن حمايته، فالسوريون دفعوا الكثير جداً من موت وتدمير وتهجير، ولن يقبلوا، بعد ذلك كله، أن يبقى السفاح وزبانيته، فإذا كان العالم يجد دماءهم رخيصة، فبالتأكيد أنهم يدركون أنها لا تقدر بثمنٍ، لأنهم أحرار لا يقبلون العبودية إلا لله وحده.
79A818D2-0B86-43CA-959C-675CEB3770CB
79A818D2-0B86-43CA-959C-675CEB3770CB
أحمد القثامي (السعودية)
أحمد القثامي (السعودية)