جمهور المخرِج الملثّم

08 فبراير 2015

لقطة من تصوير داعش إعدام الكساسبة

+ الخط -

قد لا يعلم كثيرون من الناس تفاصيل بديهية عن الحرب العالمية الثانية، إلا أنهم سمعوا بقصةٍ، أو اثنتين، عن هروب هتلر واختفائه في جزيرة ما، وأنه لا يزال على قيد الحياة عجوزاً. لا تنقطع تلك الفئة من المواد الإخبارية والتحليلات والفيديوهات التي تتحدث عن تزييف حدث ما، وتمثيله. وحتى اليوم، هنالك مَن هو مقتنع أن أحداث 11 سبتمبر لم تحصل، وأن صدام حسين حي يرزق، وأن عمر سليمان سيخرج ليرث حكم مصر.

هذه الروايات حية وقوية، لأنها تلتقط وجهاً حقيقياً للإعلام اليوم، الإثارة أهم من أي شيء آخر، الأسباب الحقيقية لا تعني الإعلام اليوم، تعنيه الأسباب المثيرة، أو الأكثر إثارة، والتحليلات الموضوعية لا تعنيه، بقدر اهتمامه بالتحليلات الأكثر إثارة والأكثر جدّة.

وداعش تمنح الإعلام موضوعاً مثيراً، صورة متغيّرة متبدّلة، حتى لا يملّ الناس. داعش تأخذ من منطق إعلام السوق الرخيص أسوأ ما فيه، وتعرضه تحت رايات سود. وداعش توفر لهوليوود أجزاءً من سيناريوهات واكسسوارات وإضافات، تغذي صناعة الأفلام العالمية بكل جديد، تماماً كما ينعش الحديث عن أي ظاهرة كونية، من الاحتباس الحراري حتى الأجرام المفارقة لمداراتها والمتوجهة نحو الأرض، سيل المليارات في شبابيك تذاكر السينما حول العالم.

داعش على الأرض ليست تلك في وسائل الإعلام وخيالات الناس. وحين شعر مخرجوها بملل الجمهور المتعطش من مشاهد الذبح، بحثوا عن وسيلة أخرى. وليس مهمّاً ما جرى في الواقع، المهم ما جرى في الفيديو، هذا ما لا يدركه كثيرون، يخدمون داعش بإدامة النقاش حول فيديوهاتها.

يمكننا أن نقتنع، تمام الاقتناع، بأن الاستبداد والظلم أساس كل بليّةٍ بُلينا بها، وأن داعش، في النهاية، انفجار لورمٍ، رعاه الاستبداد وزوّده بكل أدوات الفتك، لكن المشكلة أن هذا التحليل غير مثير، ولا يشبع رغبات الجماهير العريضة. وفق المنطق الإعلامي، اليوم، ليس مهماً أن يكون ما تقوله موضوعياً وصحيحاً، إن كنت ستظل تكرره كما هو، مرات ومرات، لا بد من جعل روايتك أكثر إثارة، حتى تضمن لها رواجاً دائماً.

لماذا يحب الناس نظرية المؤامرة؟ لأنها مثيرة وغير واضحة، وغير قابلة للتصديق أو النفي. الأسباب نفسها التي تجعل الباحثين والمحللين الرصينين والعارفين يمقتون نظرية المؤامرة ويزدرونها.

سيظل هنالك مَن يعيد مشاهدة أي فيديو مهم عشرات المرات، حتى يخرج بنظرية، الظل المختفي، والصوت المختلف، ونقطة بعيدة في زاوية الصورة تدلّل على شيء ما، الهدوء النفسي للقاتل والضحية، حركة اليد وغمزة العين. وسيضمن جمهوراً وافراً، إلا أنه جمهور طارئ، ولا يغيّر أي شيء، جمهور إعلام السوق لا يعوّل عليه، وأكثر ما يمكن أن يفعله تكرار ما سمع على مسامع آخرين، وانتظار قصة أخرى، أكثر إثارة، ليصدقها، وإن كانت على النقيض تماماً من تلك السابقة.

الطريف أن المؤمنين بكل تلك التحليلات فئة شديدة الاقتناع بما لديها، وتصر على تكراره ودفعه لأي نقاش عام، وسط شعور عارم بالتفوّق في الفهم والإدراك، ولعب مستمر لدور العاقل الوحيد في غابة من السذّج. وجود هؤلاء مهم وضروري، لاستمرار الأسطورة الإعلامية، ولا شك أن تزويدهم وتزويد الجمهور كله بحادثة واحدة، تثبت صحة مواقف هذه الفئة، مفيد جداً في بقائهم فاعلين ونشطين في تنوير البشرية البلهاء.

في أتون الفوضى العارمة، يبدو أن منطق الإعلام يغلب الواقع، إلا أن ذلك كله لا يعني أن ما يجري على الأرض يتغيّر. تظل هذه الحالة الإعلامية حالة إعلامية، من دون تغيير جوهري على الواقع، كأننا في مكان مساحة بينيّة مقيتة، يفرض أجندتها صنّاع الإثارة، ومخرجو الأفلام الملثمون.

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين