ما زالت المواويل والتواشيح في مصر ألواناً غنائية غير مطروقة بشكل كاف، فلم يلتفت إليها إلا من خلال جيلين: الأول جيل الخمسينيات وما قبله، والثاني جيل ما بعد الألفية الثانية، هذا الأخير يستعيد المواويل المشهورة مع ألحان حداثية جديدة تلائم العصر، أما الجيل القديم فله فضل الحفاظ على جزء كبير من المواويل والتواشيح من الاندثار.
ومع رحيل مطربي هذا الجيل واختفاء الشكل والبيئة الموضوعية لإنتاج هذا اللون من الغناء، واختفاء المطربين الجوالين أو شعراء الربابة، قد يتعرض هذا التراث الشعبي الشفهي إلى الاندثار، لولا حناجر مغنّيين ومغنيات حملوا التراث الغنائي الشعبي على أصواتهم، ومن أبرز هؤلاء الذين حافظوا على تراث الموال والتواشيح جمالات شيحة (1933 - 2018)، التي رحلت أول أمس، الجمعة، حيث أخلصت في تجربتها لهذا اللون وللتجول في الموالد حتى آخر مشوارها، فلم تكن معنية بالصعود كمغنية كاسيت مثلما اشتهرت فاطمة عيد في فترة من الفترات.
شيحة كانت ترى أن الموالد والمزارات والصواوين حتى ولو قلت كأماكن وبيئة موضوعية لغناء الموال والتواشيح، هي البيئة المناسبة لهذا النوع من الطرب، والذي يستلتزم منها أيضاً المحافظة على اللباس الصعيدي الريفي المتنوّع بين الأسود المنقوش بخيوط لامعة أو الألوان الزاهية الفضفاضة مع "إيشارب" الرأس بربطته الأنثوية وارتداء الذهب الذي يرمز إلى السند الموازي لفكرة الأرض أكثر منه حلية للتجمل والتفاخر.
في الحقيقة لعبت فرقة "الفلاحين" التي أنشأها زكريا حجاوي دورا في إبراز عدة أصوات في الموال وهي الأصوات التي أصبحت بعد ذلك من علامات فن الموال والتواشيح في مصر، والتي بدأت بصوت خضره محمد خضر، ثم جمالات شيحة ثم بدرية السيد وفاطمة عيد، وكانت حفلاتها تقام على مسرحي البالون والسامر، وربما تعد هذه من الخطوات الأولى الرئيسية في مسألة استقدام صوت المواويل من القرى إلى المسارح الكبرى ومن ثم الراديو والتلفزيون.
بدأت شيحة تجربة الغناء في الموالد مع والدها مطرب التواشيح حينما كانت ابنة 12 عاماً، ورغم أنها لم تتعلّم القراءة والكتابة حتى رحلت، إلا أنها أتقنت الغناء على مقامات نهاوند وحجاز وعجم وبياتي وغيرها، وكانت ترى أن مطرب الموال لا ينبغي أن يغني على مقام واحد حتى ولو كان يتقنه أكثر من غيره.
استغلت شيحة هذه الموهبة في التعلّم السريع وإتقان الغناء مع تنوع المقامات في التلوين والتنويع في الموضوعات، فغنت المواويل الخاصة بالفخر والبطولات المستلهمة من بيئة محافظة الشرقية التي ولدت فيها والمعروفة أيضاً بالمواويل المأثورة مثل "سيرة أدهم الشرقاوي"، كما أدت التواشيح الدينية خاصة في موالد الحسين، والشيخ العربي السيّد، والسيّد أبو مسلم، والدسوقي، إلى جانب إحيائها ليالي رمضان في منطقة الحسين والسيّدة زينب.
تأثرت مواويل شيحة أيضاً بالتطورات السياسية في مصر بعد حكم عبد الناصر، فكتب لها زكريا حجاوي مواويل عن مشروع الإصلاح الزراعي وعن العروبة وفلسطين، وكانت تمزج هذه المواويل بالمواويل الشعبية المحلية بحيث لا تبدو كموضوعات جديدة أو لها علاقة بمشاريع سياسية يجري الترويج لها.
تجربة شيحة يمكن وصفها بأنها تأرجحت بين الموال الأخضر، وهو الموال الخاص بموضوعات كالحب والفرح، وبين الموال الأحمر، وهو الموال الخاص بالوجع والحزن، وقد تنقلت في تجربتها بين هذين اللونين بالإخلاص نفسه. ورغم تجربة فقد الابن والزوج منذ عام 2014 ورغم جاهزيتها لتقع في الموال الأحمر بقوة بحكم التجربة القاسية، إلا أنها كانت تصعد مرة أخرى، فكان لها مزج فريد في السنوات الأخيرة بين موال "رسيني" الذي يتحدث عن الفقد والغربة والذي تبكي فيه بحرقة بعد أول كوبليه حتى تنتشل نفسها بسرعة فتربط "رسيني" بموال "على ورق الفل دلعني" موالها الأخضر الشهير.
كانت شيحة قائدة فرقة مكونة من ثلاثة يعملون على الربابة والطبلة والمزمار، ويلاحظ من يتابعها أنها كانت تدير كرسيها الخشبي في مواجهة الفرقة فتبسط يدها للعازفين للاسترسال في اللحن ثم تقبض يدها بحزم ليتوقف العزف فتمضي هي في الدندنة بدون موسيقى، وقد قبضت يدها أول أمس ولن تبسطها مرة أخرى.