تخفي الصحراء الجزائرية الكثير من التجارب الإنسانية المذهلة. منها قصة جعفر كاوا الذي قطع آلاف الكيلومترات من جنوب تشاد ليبيع الشاي وسط الرمال
بالرغم من أنّها خامس دولة أفريقية من حيث المساحة، ويمثّل المسلمون فيها ستّين في المائة، وتتكلّم اللغة العربية بحكم مجاورتها لدولتين عربيتين هما السودان وليبيا، بالإضافة إلى اللغة الفرنسية بحكم احتلالها من طرف فرنسا، التي غادرتها في أغسطس/ آب 1960، إلّا أن معرفة العرب بدولة تشاد وتعاملاتهم الثقافية والإعلامية معها تبقى محدودة.
تهيمن الصحراء والهضاب الصخرية على جغرافيا البلاد، التي لا تملك إطلالة بحرية. ويهيمن عليها نظام محتكر للواجهتين السياسية والاقتصادية، بالرغم من الطابع الجمهوري الديمقراطي، وهو نظام أدخل البلاد في جملة من النزاعات، منها حربه مع نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي ما بين عامي 1978 و1987.
جعلت هذه المعطيات وغيرها التشاديين، الذين يشكّل الأقلّ من 15 عاماً من بينهم 47.3 في المائة من إجمالي عددهم البالغ قرابة 11 مليوناً عام 2005 في حالة من العوز. وهو ما جعل الهجرة إلى الدول الأفريقية النفطية مثل ليبيا ونيجيريا المجاورتين، وإلى الدول الأوروبية، من أكثر الأحلام المنتشرة في أوساط الشباب.
في طريق "العربي الجديد" من مدينة وادي سوف، 600 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، إلى مدينة أدرار، التي تبعد عنها بـ1300 كيلومتر جنوباً، تتوقف الحافلة في استراحة ليلية عند مدخل بلدة منصورة التابعة لمحافظة غرداية. يلفت الأنظار هناك كوخ صغير يتوسّطه شابّ عاكف على إعداد الشاي فوق الجمر. وفيما كان يصدّ الدّخان عن عينيه تارةً ويخلط الشاي في طاستين كبيرتين تارةً أخرى، يجلس الجميع حوله ليتذوقوا شايه، الذي يقول أكثر من مسافر معتاد على الطريق إنّه "خرافي" بمعنى أنّه لذيذ جداً.
اقــرأ أيضاً
كان لا بدّ من تذويب جليد خوفه من الهوية الصحافية، فالمهاجرون الأفارقة في الجزائر يتوجّسون من ذلك، مخافة أن يكون الحديث الصحافي طريقاً ممهداً إلى مخفر الشرطة. تبدأ الممثلة والمصورة التونسية رماح السنوسي في تصويره، ومع الإشادة به وبشجاعته، وتأكده من كونه في مواجهة الصحافة فعلاً، يطرح سؤالاً بلهجة جزائرية جنوبية سليمة: "هل سأظهر في التلفزيون"؟ فيأتي جواب "العربي الجديد": "بل سنكتب عن تجربتك في جريدة عربية تصدر في الخارج". يسأل ثانية: "هل يمكن أن يقرأها الساسة في تشاد"؟ وتأتيه الإجابة: "أغلب الظنّ أنهم سيفعلون". عندها، يعتدل في جلسته كأنّهم يرونه فعلاً، ويبدأ في التحدث بحماس من يرغب في بعث رسائل إلى حكّامه لعلّهم يلتفتون إليه.
يقول جعفر كاوا إنّه ينحدر من مدينة دوبا الواقعة بالقرب من الحدود الجنوبية لتشاد مع جمهورية أفريقيا الوسطى: "بالرغم من أنّ الجنوب التشادي أفضل حالاً من شماله، بحكم انتشار زراعة القطن فيه، ووجود ثلثي ما يتوفّر من مؤسّسات تعليمية في البلاد هناك، إلا أنّ المعيشة فيه تبقى صعبة ومرهقة، ومحرّضة للشّباب على الهجرة، وهو ما فعلته عام 2009، ذلك أنّ أسرتي تتكوّن من 25 فرداً".
يتابع: "بذلت جهداً معنوياً كبيراً، لأقتنع بترك البيئة التي عشت فيها، وأقتحم بيئة مجهولة بالنسبة لي، خصوصاً أنّني سمعت حكايات كثيرة عن مخاطر الطريق، فقد تختطف وتستعبد أو تغتصب أو تباع أو تقتل على أيدي الجماعات المسلحة، لكنني قررت في النهاية أن أخوض الطريق إلى الجزائر عبر صحراء تشاد ثم صحراء النيجر ثم صحراء الجزائر، حيث لا تقلّ المسافة عن 4000 كيلومتر".
بدأت مغامرة جعفر بتدبّر المال، الذي يمكّنه من الأكل والشرب والنقل عبر الحافلات القانونية وغير القانونية خلال هذه المسافة المفخخة بالجوع والعطش والموت، ثمّ بالاجتهاد في حفظ ما جمعه، من عشرات الفرص القادرة على أن تسلبه ماله. يقول: "في هذه المسافة نشأت ثقافة السلب والنهب لدى الأفراد والجماعات، بل لدى الناقلين أنفسهم، إذ قد يتوقف صاحب المركبة في مكان يكون قد اتفق مع جماعته على أن تسلب فيه الركاب ممثّلاً دور الضحية".
يتابع: "راودتني الرغبة في العودة أكثر من مرة قبل الوصول، لكنّني كنت أقمعها برغبة أكبر منها هي أن أجد عملاً في الجزائر وأزوّد أسرتي الكبيرة بالمال. ثمّ آمنت بخياري تماماً إذ تمكنت من تجاوز الحدود الجزائرية، وليس هناك من خطر غير الوقوع في يد الشرطة، ما عدا هذا فالصحراء الجزائرية خالية من المشاكل". يضيف: "لقد احتجت إلى أسابيع عديدة بعد دخولي الجزائر لأتخلّص من الإحساس بالخوف والقلق وتوقع الشر، الذي زوّدني به طريق الصحراء الأفريقية".
يقول جعفر إنّه ينتمي إلى مجموعة السارا، التي تتكلّم لهجات تنتمي إلى العائلة اللغوية النيلية: "واجهت صعوبة في التعامل مع لهجات الجنوب الجزائري، لكنني تأقلمت سريعاً مع الوضع، مدفوعاً برغبتي في الحصول على عمل، وها قد أصبحت بارعاً في اللهجة الجزائرية حتى أنّ الشرطة أفلتتني مراتٍ لظنها أنّني جزائري". يسأل مازحاً: "هل أعجبتك لغتي"؟
عمل جعفر في البداية مساعداً لبائع شاي من الصحراء الجزائرية: "تعلّمت منه أصول وتقنيات العمل، ثمّ قرّرت أن أستقلّ بنفسي، وأتعامل مع مسافري الطريق الصحراوي، الذين ينزلون للأكل في هذا المطعم، فمعظمهم يفضّل احتساء الشاي حتى يستعينوا به على طول الطريق، خصوصاً السائقين منهم". هنا، يتدخّل سائق الحافلة للقول إنّه يفضّل شاي جعفر لأنّه قوي ويمنع عنه النوم: "ثمّ إنّه يمكث مدّة طويلة في إعداده على الجمر وخلطه جيّداً، فكأنه يعدّه لأسرته". يقاطعه جعفر: "فعلاً أنا أفكّر في أسرتي لحظة إعداد الشّاي، فكلّ دينار يدخل إلى جيبي هو من أجلها".
يجمع جعفر ما يعود عليه من بيع الشاي، ويسافر به مرة في السنة إلى أهله في دوبا: "بعد تحويل المال إلى عملة تشاد المحلية وهي الفرنك الوسط أفريقي". يقول بتأثّر: "باتت أسرتي تستطيع الاستدانة من التجار، لأنّهم يعلمون أنّ بإمكاننا الدفع بعد عودتي".
ومع سؤال "العربي الجديد" عمّا إذا كان يخاف في طريق العودة كلّ مرة، مثلما حدث له في المرة الأولى، يقول: "باتت لديّ خبرة، بعد هذه السنوات، في معرفة الطرقات الآمنة والأشخاص الموثوقين، غير أنّ سقوط النظام في ليبيا جعل حركة الإرهابيين أكثر حرية في شمال النيجر وجنوب ليبيا". يختم: "مستعدّ للموت من أجل أسرتي، ولا أشكّ في أنّ ذلك سيشفع لي عند ربّي".
بالرغم من أنّها خامس دولة أفريقية من حيث المساحة، ويمثّل المسلمون فيها ستّين في المائة، وتتكلّم اللغة العربية بحكم مجاورتها لدولتين عربيتين هما السودان وليبيا، بالإضافة إلى اللغة الفرنسية بحكم احتلالها من طرف فرنسا، التي غادرتها في أغسطس/ آب 1960، إلّا أن معرفة العرب بدولة تشاد وتعاملاتهم الثقافية والإعلامية معها تبقى محدودة.
تهيمن الصحراء والهضاب الصخرية على جغرافيا البلاد، التي لا تملك إطلالة بحرية. ويهيمن عليها نظام محتكر للواجهتين السياسية والاقتصادية، بالرغم من الطابع الجمهوري الديمقراطي، وهو نظام أدخل البلاد في جملة من النزاعات، منها حربه مع نظام الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي ما بين عامي 1978 و1987.
جعلت هذه المعطيات وغيرها التشاديين، الذين يشكّل الأقلّ من 15 عاماً من بينهم 47.3 في المائة من إجمالي عددهم البالغ قرابة 11 مليوناً عام 2005 في حالة من العوز. وهو ما جعل الهجرة إلى الدول الأفريقية النفطية مثل ليبيا ونيجيريا المجاورتين، وإلى الدول الأوروبية، من أكثر الأحلام المنتشرة في أوساط الشباب.
في طريق "العربي الجديد" من مدينة وادي سوف، 600 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، إلى مدينة أدرار، التي تبعد عنها بـ1300 كيلومتر جنوباً، تتوقف الحافلة في استراحة ليلية عند مدخل بلدة منصورة التابعة لمحافظة غرداية. يلفت الأنظار هناك كوخ صغير يتوسّطه شابّ عاكف على إعداد الشاي فوق الجمر. وفيما كان يصدّ الدّخان عن عينيه تارةً ويخلط الشاي في طاستين كبيرتين تارةً أخرى، يجلس الجميع حوله ليتذوقوا شايه، الذي يقول أكثر من مسافر معتاد على الطريق إنّه "خرافي" بمعنى أنّه لذيذ جداً.
يقول جعفر كاوا إنّه ينحدر من مدينة دوبا الواقعة بالقرب من الحدود الجنوبية لتشاد مع جمهورية أفريقيا الوسطى: "بالرغم من أنّ الجنوب التشادي أفضل حالاً من شماله، بحكم انتشار زراعة القطن فيه، ووجود ثلثي ما يتوفّر من مؤسّسات تعليمية في البلاد هناك، إلا أنّ المعيشة فيه تبقى صعبة ومرهقة، ومحرّضة للشّباب على الهجرة، وهو ما فعلته عام 2009، ذلك أنّ أسرتي تتكوّن من 25 فرداً".
يتابع: "بذلت جهداً معنوياً كبيراً، لأقتنع بترك البيئة التي عشت فيها، وأقتحم بيئة مجهولة بالنسبة لي، خصوصاً أنّني سمعت حكايات كثيرة عن مخاطر الطريق، فقد تختطف وتستعبد أو تغتصب أو تباع أو تقتل على أيدي الجماعات المسلحة، لكنني قررت في النهاية أن أخوض الطريق إلى الجزائر عبر صحراء تشاد ثم صحراء النيجر ثم صحراء الجزائر، حيث لا تقلّ المسافة عن 4000 كيلومتر".
بدأت مغامرة جعفر بتدبّر المال، الذي يمكّنه من الأكل والشرب والنقل عبر الحافلات القانونية وغير القانونية خلال هذه المسافة المفخخة بالجوع والعطش والموت، ثمّ بالاجتهاد في حفظ ما جمعه، من عشرات الفرص القادرة على أن تسلبه ماله. يقول: "في هذه المسافة نشأت ثقافة السلب والنهب لدى الأفراد والجماعات، بل لدى الناقلين أنفسهم، إذ قد يتوقف صاحب المركبة في مكان يكون قد اتفق مع جماعته على أن تسلب فيه الركاب ممثّلاً دور الضحية".
يتابع: "راودتني الرغبة في العودة أكثر من مرة قبل الوصول، لكنّني كنت أقمعها برغبة أكبر منها هي أن أجد عملاً في الجزائر وأزوّد أسرتي الكبيرة بالمال. ثمّ آمنت بخياري تماماً إذ تمكنت من تجاوز الحدود الجزائرية، وليس هناك من خطر غير الوقوع في يد الشرطة، ما عدا هذا فالصحراء الجزائرية خالية من المشاكل". يضيف: "لقد احتجت إلى أسابيع عديدة بعد دخولي الجزائر لأتخلّص من الإحساس بالخوف والقلق وتوقع الشر، الذي زوّدني به طريق الصحراء الأفريقية".
يقول جعفر إنّه ينتمي إلى مجموعة السارا، التي تتكلّم لهجات تنتمي إلى العائلة اللغوية النيلية: "واجهت صعوبة في التعامل مع لهجات الجنوب الجزائري، لكنني تأقلمت سريعاً مع الوضع، مدفوعاً برغبتي في الحصول على عمل، وها قد أصبحت بارعاً في اللهجة الجزائرية حتى أنّ الشرطة أفلتتني مراتٍ لظنها أنّني جزائري". يسأل مازحاً: "هل أعجبتك لغتي"؟
عمل جعفر في البداية مساعداً لبائع شاي من الصحراء الجزائرية: "تعلّمت منه أصول وتقنيات العمل، ثمّ قرّرت أن أستقلّ بنفسي، وأتعامل مع مسافري الطريق الصحراوي، الذين ينزلون للأكل في هذا المطعم، فمعظمهم يفضّل احتساء الشاي حتى يستعينوا به على طول الطريق، خصوصاً السائقين منهم". هنا، يتدخّل سائق الحافلة للقول إنّه يفضّل شاي جعفر لأنّه قوي ويمنع عنه النوم: "ثمّ إنّه يمكث مدّة طويلة في إعداده على الجمر وخلطه جيّداً، فكأنه يعدّه لأسرته". يقاطعه جعفر: "فعلاً أنا أفكّر في أسرتي لحظة إعداد الشّاي، فكلّ دينار يدخل إلى جيبي هو من أجلها".
يجمع جعفر ما يعود عليه من بيع الشاي، ويسافر به مرة في السنة إلى أهله في دوبا: "بعد تحويل المال إلى عملة تشاد المحلية وهي الفرنك الوسط أفريقي". يقول بتأثّر: "باتت أسرتي تستطيع الاستدانة من التجار، لأنّهم يعلمون أنّ بإمكاننا الدفع بعد عودتي".
ومع سؤال "العربي الجديد" عمّا إذا كان يخاف في طريق العودة كلّ مرة، مثلما حدث له في المرة الأولى، يقول: "باتت لديّ خبرة، بعد هذه السنوات، في معرفة الطرقات الآمنة والأشخاص الموثوقين، غير أنّ سقوط النظام في ليبيا جعل حركة الإرهابيين أكثر حرية في شمال النيجر وجنوب ليبيا". يختم: "مستعدّ للموت من أجل أسرتي، ولا أشكّ في أنّ ذلك سيشفع لي عند ربّي".