جسر العشاق في باريس

15 فبراير 2015
جسر الحب في باريس، تاريخ من العشق
+ الخط -
جسر العشاق في باريس يكاد يهوي في نهر السين. الأقفال التي تعاهد العُشّاق الذين يأتون إلى مدينة النور والجن والملائكة، من كل حدب وصوب، وهم يعلقونها، أن يظل عشقهم خالداً لا يموت، خالدا مثل خلود نهر السين الذي تسير مياهه تحت الجسر، تهدد جسر "بون نوف" بالسقوط في نهر السين.

الأقفال التي ضاقت بها شبابيك الجسر، والتي صدأ بعضها وتكسَّرَ البعض الآخر وامّحت أسماء العشاق الذين كانوا فوقها، أو امّحت أسماء بعضهم، هذه الأقفال حولت الجسر إلى كتلة رهيبة من الحديد والنحاس، بينما غادر أصحابها إلى مدنهم وعوالمهم وهمومهم اليومية، والكثير رحلوا إلى العالم الآخر. إنه الحبّ، ولا شيء أفضل من الحب. أم كلثوم العظيمة تصدح: الله محبة.

جميل هو الحبّ، ولكن الجسر قد يَهْوي بالأقفال وبالعشق، فما هو الحلّ؟ البلدية، القلقة على الجسر، وضعت ألواحاً يبصم فيها العشاق أسماءهم ونُذُرَهم. ولكن العشاق لم يستسيغوها.
"للحبّ عدوى"، كما يقول سكان البندقية، الذين يسبحون في الماء، وهو ما فعله عشاق باريس، الذين نقلوا أقفالهم وعشقهم وتعهداتهم ونُذُرَهم إلى جسور باريس الأخرى.
من قال إن للحبّ جِسْراً واحداً؟!

لم يأبه العشاق بمطالب بلدية باريس بأن يخففوا من وطأة عشقهم على الجسر الذي يثقله حب وأمنيات عاشقين، بلا أقفال ترجوهم أن يخطّوا أمنياتهم على لوحات خشبية أمّنتها لهم بلدية العاصمة. من جسر إلى آخر ينقل العشاق تعبيرات حبهم بأقفال تشع على مسافات وأنت تنظر في أفق النهر.

الشبابيك التي تنتشر عليها الأقفال تجاوزت الجسر، بون دي زار، الفاصل بين رصيف مالاكي وكونتي في المنطقة السادسة إلى جسور أخرى كجسر ليبولد سيدار سنغور وجسر المطرانية. بكل لغات العالم ينتقلون من جسر لآخر، تلمع في الأفق أقفالهم المرسومة عليها أسماء وقلوب حب تعبر عن عاشقين مرا في عاصمة النور والفن. وفي الخلفية يستلهم هؤلاء الخارجون من قصر الفن، أو اللوفر كما هو معروف بين الناس، تخليد ذكرى مرورهم على الجسر.


وليس من النادر أن تجد بين العشاق عشاقا عربا، وبين الكلمات اللاتينية والصينية واليابانية وغيرها كلمات من لغة الضاد الجميلة. العاشق العربي، في زمن العولمة، لم يَعُد يخفي عشقه، بل يُشهرُهُ، كما السيف، وباريس "مربط خيل" الكثير من العرب.

لا يفاجئك أن يطلب عاشق يد حبيبته تماما في منتصف الجسر، فتستدير كل العيون إليهما ترقب لحظة ولادة طبيعية لاستدامة العشق من باريس. وليس أمر الحب هنا مقتصراً على فردين عاشقين، زوجين أو خطيبين، بل قد تشدك أسماء بلغات منها العربية تخط لوالدة أو عمة أو خالة، والعكس صحيح.

قد لا تكون هذه العادة فرنسية خالصة، إذ يعترف العشاق بأنها عادة أوروبية شرقية، لكن باريس تبنتها كممارسة قبل أن تثقل أقفال الحب جسورها. رغبة العشاق لم تثنها صرخة مهندسي العمران، حين هرعوا في منتصف العام الفائت يسعفون أحد جسور العشاق، وقد انهار جزء من سياجه المثقل بتلك الأقفال الطاغي عليها اللون الذهبي. أهو كان انهياراً للبحث عن مفاتيحها المرمية في النهر؟

بمجرد أن تنظر إلى الأسفل سترى عبر مياه لا يعكرها شيء، انكسار أشعة آلاف المفاتيح التي رماها العشاق كعنوان لاستدامة هذا العشق. تلك الممارسات باتت تعبيرا عن وجه رومانسي آخر لعاصمة الفن والحب باريس، بعض موسيقى وبعض ورود وسير على جسر مخصص للمشاة عند المغيب، وعاشقان يتلفتان يمنة ويسرى قبل اختيار فسحة يلمحانها بين الأقفال، وقبل أن يغلق فيناولها المفتاح لترميه في النهر بعد قبلة ما. يرفع صاحب الغيتار صوته وصوت أوتاره مرحبا بعاشقين جديدين.

صحيح أن بعض العشاق أصابهم يوما الانزعاج من سرقة حوالي ألفي قفل، كواحدة من السرقات غير المفهومة لأقفال مغلقة، إلا أن تدفق العشاق لم يتوقف رغم كل محاولات ثنيهم عن التعبير بطقوس قد تبدو غريبة لثقافات أخرى.

في عيد الحب يكثر زائرو جسور الحب، إما للتعبير عن وفاء لحبيب أو لتوكيد ولادة حب جديد لتعلق باسمه أقفال إلى جانب عشاق يعيشون حياتهم في جهات الأرض الأربع. فعيد الحب ليس حكرا على بلد دون آخر، إنه الحب الذي يطرق أبواب منازل بريطانيا الخلفية ليضع بعض الحلوى للأطفال.

ومثله في فرنسا الكاثوليكية يسمى عيد حب يتبادل فيها الناس العطاء مثلما يفعل البرتغاليون والفنلنديون والنرويجيون والدنماركيون بعشاء رومانسي تعبيراً عن لحظات الحب التي عاشها الأزواج والأحباب وحتى الأصدقاء. إنه سيرة واحدة وإن اختلف الاحتفال.
دلالات
المساهمون