جراح تحدّق في جراح

26 نوفمبر 2015

لوحة للفنان الفلسطيني محمد جحا

+ الخط -
ما الذي يجعل مجموعة من الرجال الخمسينيين والستينيين والسبعينيين، في مقهى شعبي صغير، بست طاولات، يلعبون الورق، يقفون فجأة بشكل هستيري، مسقطين عن الطاولات الأوراق والمنافض وكاسات الشاي والطاولات نفسها؟ ما الذي يجعلهم ينسون، بسرعة، أنهم على وشك هزيمة الخصم أو الانتصار عليه؟ كيف يمكن أن يكون هذا الشيء الذي حدث أكثر أهمية من صوت أولادهم وزوجاتهم، وهم يتصلون بهم، مطالبين بصحن حمص، أو قالب شوكلاته، وبلعبة، أو بعودة مبكرة للبيوت.
لا يمكن أن يحدث هذا الوقوف المفاجئ إلاّ في مكان استثنائي، هو المخيم. كنا هناك، معلمين ومشرفين وطلاباً من مدارس مختلفة في فلسطين، يجمعهم حب الكتابة وغياب آبائهم الطويل في السجون الصهيونية، سميناهم "أبناء القمم". وبالتعاون بين المؤسستين، "هيئة شؤون الأسرى" و"تواصَل"، قدمنا إلى الجزء المعذّب من أنفسنا، كنا على باب مخيم برج الشمالي في صور- لبنان، نفاوض حاجزاً عسكرياً عربياً للدخول إلى ينبوع آخر من دمنا، ودغل بعيد من أجسادنا، وشمس منفية من بلادنا. بعد ساعةٍ، سمح لنا بالدخول، فتدفق في شراييننا دمنا الناشف المهمَل، وصرنا فلسطينيين بشكل كامل وحزين وغريب، الذين يشبهوننا كثيراً، الذين هم تماما نحن، كانوا بانتظارنا، كانوا ينتظرون أنفسهم، ذكرياتهم، جراحهم، آخر لحظات "رائحة المفتول"، وهي تهبّ من بيت الجيران، أنصاف التفاحات التي سقطت منهم في أثناء القضم، مع بداية عصر القتل والطرد.
لم يكن أرزاً ما سقط فوقنا. كانت فلسطين كلها بكامل حقولها، حدّق الجرح في الجرح، وتطابق الملح مع الملح، وبكى رجل ثمانيني في الجوار، وهو يصيح: "عم نستناكم دايماً، والله دايماً، ليش بتتأخروا دايماً". وصاحت النسوة الواقفات على أبواب البيوت المنخفضة: "شكراً لأنكم اتزكرتونا". مكان الاستقبال كان قاعة أبناء لوبيا، وهي لا تمت للقاعة بقرابة بعيدة حتى، هي بناء من طوب، بأرضيةٍ من تراب، وحجارة مخلخلة، تستخدم لأغراضٍ كثيرة، كالأعراس واستقبال الضيوف والعزاء، والطبخ الجماعي. ما الذي أجبر الدموع على الإفصاح عن نفسها بحرية من الطرفين، المستقبِل والمستقبَل؟ ما الذي كسر قفل القلب، وفجّر المشاعر الحزينة كالأنهار؟ ليس سوى التقاء الخوف بخوفه، والسؤال بسؤاله، والأمل بأمله، فكيف لا يبكي باب منهك من شح الطرق، وجد مفتاحه أو يده؟ وكيف لا تتأثر شجرة مجروفة مع فيضانٍ عارمٍ عثرت على فلاحها القديم؟ كيف لا تبكي أم وأبنتها، حين العثور على بعضهما، بعد زلزال طويل وعميق، حطّم البيت والأب والمدينة، لكنه لم يمس الذاكرة، ولم يدمر عمل القلب.
من وين يا عمي؟ "أنا من لوبيا". وأنت من وين يا ابنيي؟ "أنا من الرملة". لا شيء كان يسبق هذا السؤال، ليس هناك أسئلة تقليدية على شاكلة: كيف حالك؟ وكيف الصحة؟ وشو بشتغلوا؟ وكيف جيتو؟ ومتى مروحين؟ سؤال واحد اختصر كل العتمة وكثّف كل العذاب، واحتضن كل الأمل: إنتو من وين؟. وكأن لا فرصة للصحة والمهنة والحال وزمن القدوم أو المغادرة، إلا بمعرفة أسماء قرى البلاد ومدنها. تلقى أبناء القمم آلاف القبلات، ما الذي فينا حتى يحبنا هؤلاء الناس الحزينون، يا أستاذ؟ سألني طالب. "تماماً هو ما فيك من أبيك المسجون، وما في أبيك المسجون منك"، أجبته. تلقى أبناء القمم آلاف القبلات من الناس الحزينين، تلك التي تشبه القبل المبلولة للجدات الطاعنات في الاعتزاز، ولهفة مسابقة الزمن. كانوا يقبّلون فلسطين من خلال خدودها الناعمة، وحكاياتها المقبلة.
لا شيء يدخل معنا إلى المخيم سوى ظلالنا. قال لنا الناس الحزينون، وحين نريد إخراج ميتٍ من بيت في المخيم لدفنه، نخرجه "بالحرام" أولاً، لأن الزقاق ضيق على التابوت.
ما الذي يجعل مجموعة من الرجال في مقهى شعبي صغير، بست طاولات، يلعبون الورق، يقفون فجأةً بشكل هستيري، مسقطين عن الطاولات الأوراق والمنافض وكاسات الشاي والطاولات نفسها؟ لا يُجبرهم على ذلك سوى شبحي، وهو يدخل المقهى، ملقياً السلام، وقائلاً لهم بهمس: مرحباً، أنا من فلسطين.
4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.