جدّتي.. وَوعد بلفور

02 نوفمبر 2014
الوسيلة التي اختارتها جدّتي للانتحار (Getty)
+ الخط -

نظرت إلى أطفالها الأربعة، وراحت تفكّر كيف تنقذهم من الموت، الذي خيّمت رائحته على المكان، بعدما نال المجرمون من شريك حياتها، ذلك المساء الذي قلب حياتها رأساً على عقب. جلست برفقة زوجها والعائلة في المنزل لتناول العشاء، وفجأة طرق شخص غريب على الباب، خرج زوجها معه بسرعة قائلاً لها: "إنّه أمر طارئ".

هرع الزوج ملبّياً النداء، كونه من الناشطين السياسيين في البلد، وما هي إلاّ دقائق حتّى اقتنصت طلقات الموت روحه، وسرقت شبابها، الذي فرّ هارباً منها في تلك اللحظة. أحسّت بالهرم بعد رحيله المفاجئ، وتركها وحدها في بلد باتت تشعر فيه بالغربة، بعدما قُدّم هديّة لليهود، الذين تحوّلوا في ليلة وضحاها إلى أصحاب الأرض.

لم يبق أمامها سوى السّفر بأولادها الثلاثة إلى لبنان وتسجيلهم في مدرسة داخلية هناك، حتّى تحميهم من الحرب الدائرة في البلد. خطّطت لكلّ شيء، ستترك طفلها الرّضيع مع أهلها في فلسطين، وتنطلق بإخوته إلى العاصمة اللبنانية، بيروت، حيث "تؤمّن" على وضعهم الدراسي ومستقبلهم، وتعود بعدها إلى طفلها، تبقى إلى جانبه، حتّى تنقضي فترة الحرب بعد أشهر أو سنة.

لم يخطر على بالها أمران، أوّلهما أنّ الحرب ستستمرّ لعشرات السنين، وثانيهما أنّ إغلاق الحدود بين لبنان وفلسطين سيحرمها من رؤية رضيعها مجدّداً.

وضّبت الحقائب، ودّعت طفلها وعائلتها، بعدما أوصتهم بالاهتمام بالطفل ريثما تعود بعد أسبوع أو أسبوعين. كانت تراقب طريق منطقتها وهي تبتعد، لطالما حلمت أن تزور لبنان مع زوجها، وألحّت عليه أن يذهبا برحلة إلى هناك. بيد أنّ انشغاله الدائم حرمها من تحقيق تلك الأمنية. ولم يعد لأحلامها معنى بعد رحيل زوجها، وهمّها الوحيد بات حماية أولادها من براثن الموت.

لطالما حكت لي جدّتي عن معاناتها، وطفلها الذي لا تعلم عنه شيئاً في فلسطين، حين كنت مراهقة لا أفقه حجم المأساة وهول حرمان أمّ من طفلها ووجودها وحيدة في بلد غريب. وجدّتي كانت امرأة مثقّفة ومدرّسة رياضيات في زمن ندر فيه تعليم النساء إلاّ الكتابة والقراءة.

كان جلّ اهتمامي ينصبّ في السّؤال عن كيفية التقائها بجدّي اللبناني، وقصّة الحب التي دفعت جدّي للتخلّي عن كلّ شيء للزواج بها.

وصلت جدّتي إلى بيروت، وما هي إلاً أيام قضتها في البحث عن مدرسة مناسبة تودع فيها أطفالها، حتّى أغلقت الحدود بين لبنان وفلسطين. سألت عن سبيل أو أي وسيلة تعود بها إلى بلدها وطفلها، حتّى فقدت الأمل وهامت تسير على غير هدى، تنظر إلى البعيد البعيد، وتركّز في الأفق، استمرّت على هذا النحو ساعات. أنهكت قواها ولم تدرِ أين تذهب وماذا تفعل. بقيت وحدها بعدما دفعت كل ما حملته معها من مال لقاء الاهتمام بأطفالها في المدرسة. كانت تحتفظ بمبلغ يكفي طريق العودة إلى الديار، بيد أنّها أنفقته في أيّام لم تكن  في الحسبان.

كانت السكك الحديدية في لبنان لا تزال تعمل. وقفت جدّتي هناك أمامها، وأرادت الموت، عصفت بذهنها كلّ تلك الأيام الجميلة، التي توقّفت فجأة ليلة مقتل زوجها. "ليتهم قتلوني أنا بدلاً منه"، قالت جدّتي في تلك اللحظة، كان الانتحار أفضل الحلول للهروب من الواقع المزري والأليم الذي وصلت إليه.

كنت دوماً أشعر بالحماس حين تروي جدّتي كيفية لقائها بجدّي، حتّى لو كرّرت القصّة عشرات المرّات عليّ، تلك اللحظة كانت الأهمّ بالنسبة لمراهقة.

"أردتُ أن أموت على سكّة الحديد، ووقفت هناك أنتظر قدوم القطار"، تقول جدّتي، حين اقترب منها شاب يرتدي بزّة عسكرية للدرك اللبناني، وسألها عمّا تنوي القيام به. لم تلتفت إليه وبقيت جامدة في مكانها، اقترب منها وطلب إليها الابتعاد عن السكّة لأنّ القطار سيمرّ بعد دقائق، نظرت إليه وقالت بصلابة: أنا بانتظاره.

جدّي كان رجلاً طيّب القلب، مرهف الإحساس، شعر بألمها وعرض عليها المساعدة. ردّت: لا يستطيع أحد أن يعيد إليّ ما فقدته، لقد خسرت وطناً وزوجاً وطفلاً، لا بل عائلة وحياة هانئة، وسألت: "قل لي، هل تستطيع أن تساعدني، أو أن تعوّض جزءاً من خسارتي؟".

أمسك جدّي بيدها وسحبها بعيداً عن السكّة، ولم يتركها منذ ذلك اليوم، تخلّى عن أهله الذين رفضوا زواجه بفلسطينية أرملة وأم لأربعة أطفال، وعملوا على حرمانه من حقّه في الحصول على أي جزء من الميراث. كان حقدهم تجاهها كونها فلسطينية الجنسية، أكبر سبب للابتعاد عن ابنهم.

اهتمّ جدّي بها وبأطفالها الثلاثة، وأنجب منها والدتي. لم تتخطّ جدّتي ألم حرمانها من طفلها الرّضيع، على الرّغم من مرور عشرات السنين. وحثّت إخوته في لبنان أن يبحثوا عنه، اتّصلوا بمنظّمات داعمة للقضيّة، وبحثوا لسنين طويلة حتّى عثروا على أخيهم، وتهاتفوا. هرعت جدّتي للقاء انتظرته طول العمر، وصلت إلى حيفا وقابلت رجلاً بدل الطفل، كان اللقاء كحلم، بقيت مع ابنها وزوجته وأطفاله أسابيع، وهمّت عائدة إلى بيروت، طلب منها ابنها البقاء كي يعوّضا هما الاثنان زمن الحرمان. أبت جدّتي أن تتخلّى عن زوجها الذي ساندها في أصعب لحظات حياتها، وعادت إليه، وما هي إلاً أيّام حتّى دخلت جدّتي المستشفى ولم تخرج منها سوى إلى القبر، كان السرطان قد فتك بجسدها.

جدّتي واحدة من آلاف ضحاياك يا "وعد بلفور".

-------
اقرأ أيضا:
ماذا يقول الشارع اليوم لبلفور؟
وعد بلفور المشؤوم: زياد همّو حمل الرصاص في يديه 
بلفور وطفولة حيفاويّة: الشارع والوعد
موعد التاريخ لتصحيح الوعد
وعود قبل بلفور.. نابليون والروس والألمان سبقوا بريطانيا
وعد بلفور- كاريكاتير عماد حجاج

المساهمون