30 ديسمبر 2021
جبهة شرف العذارى!
الضربة جاءته من حيث لا يدري ولا يحتسب، ولذلك كانت موجعة جدا، ولذلك أيضا كان رد سيادة اللواء قاتلا. قاتلا، قاتلا بمعنى الكلمة.
«طلقة في الرأس». الحكاية واضحة وضوح الشمس، أو قل وضوح الثقب في جبين القتيل، ولن يكون ثمة مجال لأي لف أو دوران يمكن أن يطلبهما مسئول من أي طبيب شرعي أيا كان مدى تعاونه أو إيمانه بضرورة استقرار البلاد التي لم تعد تحتمل المزيد من اللغط والفوضى.
«اتصرف يا سيدي، أنت مش هتغلب». رئيس المباحث الجنائية استمع لتوجيه وزير الداخلية باهتمام وقال له إنه سيتصرف كالعادة ولن يخذل ثقته فيه، لكنه فقط يريد أن يفهم حقيقة ما حدث. «يا سيدي مش مهم حد فينا يتنيل يفهم.. هو في حد فاهم حاجة أصلا في البلد بحالها.. المهم نتصرف.. سيادة اللواء مش عايز يتكلم ولما حاولت أسأله كده بصنعة لطافة هَبّ فيَّ وقال لي إن عنده استعداد يتحمل مسئولية اللي حصل.. وإنت عارف الموضوع ده لو وصل للإعلام ممكن يعمل إيه في البلد». هز رئيس المباحث الجنائية رأسه مظهرا الاقتناع الكامل بما قاله رئيسه، ثم أضاف بعد زفرة عميقة: «خلاص يا فندم نمشيها انتحار»، والوزير شخط بعزم ما فيه وقال له: «نعم يا خويا، في عريس يروح يتقدم لواحدة وينتحر في بيت أبوها.. دي ما تتعملش حتى في مسلسل تركي.. ما عنديش مانع تخيب على آخر الزمن بس مش في قضية زي دي».
الوقت كان ضيقا بحيث لم تكن لدى رئيس المباحث الجنائية رفاهية التفكير في حل آخر، بمجرد وصول الخبر إلى أهل الشاب القتيل سيتسرب الخبر إلى الصحافة والإعلام، ومع بدء برامج الإثارة المسائية ستنقلب البلاد رأسا على عقب، أخذ نفسا عميقا وقال لرئيسه: «سيادة الوزير أنا بحكم الخبرة إتعلمت إن التفسيرات البسيطة التقليدية دايما بتكون هي الأصح والأكثر إقناعا.. الحياة ما بتجددش نفسها خالص.. الناس هتصدقنا لو قلنا إن سيادة اللواء رفض الشاب اللي إتقدم لبنته عشان مستواه الاجتماعي.. لا بلاش عشان هو لسه متخرج ومش لاقي شغل وقال للولد نصايح عن إنه لازم يكون مستقبله الأول بدل ما يتحمل مسئولية فتح بيت.. الواد كان مهزوز نفسيا ودي ممكن نطلّع بيها تقرير من دكتور نفساني كان بيتعالج عنده في نفس الحي اللي هو ساكن فيه.. مش معضلة خالص.. المهم الواد لما سمع الكلام ده حس بصدمة نفسية عنيفة سحب مسدس سيادة اللواء وضرب نفسه بالنار من شدة اليأس.. صدقني الحكاية منطقية جدا سعادتك».
الوزير وزن الكلام في دماغه سريعا، ثم قال مستحضرا روح ضابط المباحث القديم: «طيب مش هاقولك إزاي الواد ينشِّن المسدس على نص دماغه من غير ما سيادة اللوا يحاول يمنعه.. لأ السؤال الأهم هو إيه اللي كان مِشيِّل سيادة اللواء مسدس أصلا.. في حد يقابل الشاب اللي جاي يتقدم لبنته وهو شايل مسدسه الميري». إذا كنت قد تمرغت في تراب الميري فأنت تعلم أنك في ظروف كهذه لا بد أن تظهر لرئيسك أن ما يطرحه وجيه للغاية حتى لو كان شديد البلاهة في نظرك، وهذا ما فعله رئيس المباحث المخضرم مظهرا تقديره للملاحظة واجتهاده في حلها قبل أن يقول لرئيسه: «تخيل يا فندم إن دي ملاحظة ممكن تبقى في صالحنا، الشاب أصلا جه من غير معاد عشان يقابل سيادة اللوا، بدليل إنه ما خدش حد من أهله معاه، استنى الباشا تحت البيت، ولما لقاه طالع من عربية الشغل دخل عليه الحرس حاولوا يمنعوه، قعد يزعق ويقول إنه عايز يقابل الباشا في موضوع شخصي، الباشا طلعه البيت وهو لابس البدلة الميري، وفوق حصل اللي حصل».
«تمام.. إعتمد وإحنا ونصيبنا»، قالها الوزير راضيا قبل أن يمد يده إلى سماعة التليفون لكي يزف لقائده الأعلى بشرى التوصل إلى سيناريو الحل، لكن جرس التليفون سبقه بالرنين. اعترى رئيس المباحث الجنائية قلق عميق أخذ يتصاعد كل لحظة وهو يرى رئيسه يقلب سماعة التليفون من أذن لأخرى وملامح الذهول تسود وجهه مغمغما بكلمات متناثرة: «إيه.. إزاي.. إمتى.. فين الكلام ده.. يا نهار إسود.. أنت أكيد بتهزر.. كام.. تلاتة مرة واحدة.. لا تلاتة إيه.. كده يبقوا أربع حوادث.. يا نهار أسود.. بنفس التفاصيل.. لا ده تنظيم بقى.. الموضوع مش سهل.. بص بالراحة عليا كده وعيد كلامك من الأول عشان بس أقدر أستوعب.. قلت لي كام واحد منهم إتضرب بالنار.. واحد إتقتل.. كده بقوا إتنين مقتولين.. والتالت إتحدف من البلكونة.. والرابع أنقذوه قبل ما سيادة اللوا يخنقه.. ده إيه الحلاوة دي.. طب إقفل ما تسَمعنيش أي مصايب تانية.. هات لي كل البلاغات اللي جت لك بسرعة وتعال لي عشان تديها بنفسك للسيد المساعد رئيس المباحث الجنائية يشتغل عليها».
أغلق الوزير السماعة بعد أن خبطها بالمكتب مرارا، ربما لكي يمنع نفسه من توجيهها إلى دماغه مباشرة، قبل أن يضرب كفا بكف وهو يندب حظه: «يا دي المصيبة السودة.. يا دي المصيبة السودة.. ده حظ إيه ده بس يارب.. وقال أنا اللي فاكر إني كنت هانقذ البلد.. هنحلها إزاي دي؟! هه؟! ده شغل تنظيمات دولية على كبير.. هنحلها إزاي المصايب دي دلوقتي.. ساكت ليه؟! ما تفهمني بدل ما أنت واقف زي الصنم كده؟».
توتر الموقف.. لم يخرج رئيس المباحث الجنائية عن إدراكه لأدبيات التعامل مع وزيره، فلم ينبهه إلى أنه لم يشرح له بعد طبيعة المصائب التي يتوقع منه حلها، بل قال بابتسامة واثقة: «هتتحل بإذن الله.. ما فيش مشكلة من غير حل.. حالا هتيجي لي البلاغات وهالاقي حل بإذن الله.. بس سيادتك إهدا يا فندم.. صحتك عندنا بالدنيا».
لم يكن رئيس المباحث الجنائية يعلم أن ابتسامته الواثقة وكلماته المسكونة بالطمأنينة ستجعله ملزما بأن يجد حلا ناجعا يضعه على مكتب الوزير خلال ثلاث ساعات فقط، هي التي تفصل بين السادسة مساء وقت توافد البلاغات على مكتب الوزير، والتاسعة مساء موعد عرض أكبر برامج التوك شو التي قيل إن أحد مراسليها علم بإحدى وقائع القتل المريبة.
بعد أن ألقى نظرة سريعة على البلاغات المقدمة قال لرئيسه بنبرات واثقة: «ما تقلقش سعادتك يا فندم.. لحسن الحظ إن الشاب اللي أنقذوه يقدر يتكلم ونفهم منه إيه الموضوع، وهل ليه علاقة بالتلاتة التانيين»، أفلتت منه الجملة الأخيرة ولذلك استحق ما ناله من شتائم رئيسه أسقطها من ذاكرته محتفظا بجوهر اعتراضه: «طبعا ليه علاقة بيهم.. ولازم يعترف بده ونعرف مين اللي زاققهم.. إياك حد يقول لي إن اللي حصل ده كان صدفة حتى لو كان صدفة.. مفهوم؟ قدامك تلات ساعات يكون عندي تقرير مبدئي.. وعلى ما تخلص أنا طالع على القيادة المركزية هاقابل الأربع لواءات أحاول مع القيادات نطلَّع منهم أي تفاصيل.. على الله حد فيهم يحكي لنا اللي حصل بالضبط».
كانت القضية غرائبية للغاية، لم يتصادف أن مر مثيلها على رئيس المباحث الجنائية، ولا حتى في الروايات البوليسية التي يدمن قراءتها والفرجة على الأفلام المأخوذة عنها، ومع ذلك فقد كان حل لغزها أسهل مما تخيل، لم يستغرق بالضبط أكثر من نصف ساعة قضاها رئيس المباحث الجنائية مع الشاب الناجي الذي حكى كل التفاصيل بمنتهى الفخر وضحكة عريضة تزين وجهه: الشباب الأربعة إتضح أنهم بالفعل رفاق في تنظيم واحد اتخذ لنفسه اسم «جبهة شرف العذارى»، والشاب الناجي الفخور بنفسه وبرفاقه القتلى أخرج من جيبه منشورا وُجِد في جيوب الثلاثة القتلى أيضا يشرح بالتفصيل ما اتفقوا على عمله، والأدهى أو قل والأنكى، أن بنات اللواءات الأربعة كن ضالعات فيما حدث، لأن كلا منهن كانت هي التي أبلغت أهلها بأن شابا يزاملها في الكلية سيأتي ليتقدم لها بشكل غير رسمي، كان الشباب الأربعة يعلمون أنهم قادمون على عمل فدائي قد تذهب أرواحهم بسببه، ولذلك فقد كانوا حريصين على أن يحكي المنشور كل تفصيلة سيقومون بها، وعلى رأس ذلك نص العبارات التي أدت إلى أن ينتفض اللواءات الأربعة غضبا لشرفهم، والتي كانت عبارات موحدة، اتفق الجميع على صيغتها بعد جلسات مطولة ليقول كل منهم ما نصه: «يافندم شرف عظيم ليا إن سيادتك توافق إني أجيب أهلي معايا المرة الجاية، بس ممكن قبل ما يبقى الموضوع رسمي أطلب من سيادتك حاجة مهمة، أعتقد أن سيادتك عارف قد إيه مهمة عشان يحصل نصيب، ممكن أكشف على عذرية بنت حضرتك. بس بشرط يبقى الدكتور من طرف عيلتي؟ أظن ده حقي يافندم وسيادتك عارف مابقاش في حاجة مضمونة في البلد».
عندما وضع رئيس المباحث الجنائية الملف النهائي أمام وزير الداخلية في ساعات الفجر الأولى، شرع الوزير على الفور في قراءة ملخص الملف الذي تعود مساعدوه على أن يضعوه له في البداية توفيرا لوقته، كان وجهه يتزايد امتقاعا مع كل سطر، وفور أن انتهى وضع كفيه على رأسه منهزما أمام ثقل الرزية التي ابتلاه بها الدهر: «لا حول ولا قوة إلا بالله.. المصيبة أكبر من إننا نخبيها أو نتصرف فيها، كل اللي ممكن نعمله إننا نفكر إزاي ما تتكررش خامس مرة..»، على الفور مد رئيس المباحث الجنائية يده إلى الملف لكي يستخرج منه ثلاث ورقات مدها إلى رئيسه قائلا له بملامح تحاول أن تخفي فخرها بقدرته على التفكير المستقبلي.
نظر الوزير إلى الورقات ليقرأ عنوانها الذي كتبه رئيس المباحث الجنائية بيده «كشف بأسماء جميع القادة الذين يمتلكون بنتا في سن الزواج لتوفير حراسات أمنية ثابتة بشكل عاجل»، وعندما رفع الوزير رأسه مندهشا وجد مساعده يقول له بكل ثقة: «نحاول نمنع الحكاية من المنبع يا فندم.. ده اللي نقدر نعمله».
ـ نُشرت في مجموعتي القصصية (الشيخ العيِّل) التي صدرت عام 2013 وتصدر طبعتها الجديدة قريباً بإذن الله.
تتوقف مدونة كشكول لعدّة أيّام على أن تعود لقرائها يوم الأحد في 24 مارس/أذار الجاري..,