جبران.. "نبي" في المهجر

07 مايو 2015
وجه جبران منحوتاً في قرية بشرّي اللبنانية (فرانس برس)
+ الخط -
لا جديد عندما نقول إن كتاب "النبي" لجبران يحلُّ في المرتبة الثالثة في المبيعات، والانتشار حول العالم، بعد أعمال شكسبير وكتابات لاو تزو، صاحب حكمة "التاو" الصينية. فتلك إحصائية يوفرها لنا أي محرّك بحث، ما دمنا نعيش، اليوم، في العالم الرقمي، ويمكننا التسكع على "الهاي واي" العالمي للمعلومات.

ولا جديد، كذلك، في القول إن "النبي" وضعه المؤلف بالعربية أولاً، ثم ركنه في الدرج سنين، ثم قرر أن يعيد كتابته، مجدداً، بالإنجليزية بالتعاون مع السيدة التي أهدى إليها الكتاب: ماري هسكل، مديرة إحدى مدارس البنات في بوسطن، أول مدينة أميركية يقيم فيها جبران مع عائلته المهاجرة من لبنان.

ولمن يلمُّ بنزرٍ من سيرة جبران يعرف الدور الكبير الذي لعبته هذه السيدة في حياته، وكذا الدور الذي لعبه هو في حياتها. فمن دون ماري (أو مريم كما كان يناديها) ما كان للنبي أن يخطب، على الأغلب، في جموع مدينة "أورفليس". بهذه الفصاحة.

في حياة "سابقة" قرأت جبران من مكتبات الرصيف، مثلي مثل أي مراهق يهتم بالقراءة. ومثل من يقرأ جبران في هذه السنّ رأيتني في عالم مهيب. صحيح أني لم أدرك بعض ألفاظه ومراميه، ولكن وقفة "المصطفى" وهو يتأهب لمغادرة مدينة "أورفليس" أشعرتني بالرهبة والسموّ. هناك شيءٌ فخم. شيءٌ غير عادي في هذا "الشخص" الذي يُدعى المصطفى. هل هذا اسمه يا ترى؟ مصطفى، أم المصطفى؟ لِمَ هذا الاسم تحديداً دون غيره من الأسماء؟

عندما صرت أعرف من يكون جبران، وما هو كتابه "النبي"، ومن هم المهجريون الشماليون، لم يعد السؤال صعباً. أو هكذا أظن. وهذا ليس موضوعي الآن. أفكِّر، بعد عودة نبي جبران في فيلم تحريك عالمي، كيف نصنِّف كتابات جبران، عندنا، خصوصاً كتابه الذي يعطيك انطباعاً، من مجرد النظر إلى غلافه، بأن "النبي" يتعلق بجبران نفسه.

هناك اسمان على الغلاف (طبعة دار نوفل): جبران خليل جبران يليه: النبي. وبورتريه لجبران غائم، تلفّه هالة، كما لو كان الأمر يتعلق بقديس أو نبي.. والرسم هو صورة ذاتيه، أيقونية، بريشة جبران نفسه، حسب ظني.

هوية وخانات

لتصنيف الكتب في خانات طابع "هوياتي" وتسويقي في آن. ففي أي خانة نجد كتب جبران في المكتبات العربية؟ أكيد، في خانة الكتب الأدبية، بما في ذلك "النبي". فجبران، بالنسبة للثقافة العربية، أديب. شاعر بالدرجة الأولى، أحدث ثورة في اللغة والمعاني، وقاص، كما كان عليه قصاصو مطلع القرن العشرين، وكاتب مقالات.

ليس في الأمر سوء في الترتيب، رغم سوء ترتيب المكتبات العربية، ولا فهم خاطئاً لطبيعة نتاجه. صورته، عندنا، هي التي تقرر طبيعة نتاجه، وتحدد "هويته"، وهي صورة يغلب عليها الشعر، حتى وإن كتب نثراً، حتى وإن تفلسف. فالجمهور العربي الواسع يعرفه، حسب ظني، من فيروز أكثر مما يعرفه من نتاجه الأدبي الذي كان مقرراً بعضه في مناهج تربوية عربية.

وفيروز غنت له أكثر من قصيدة لاقت شهرة كبيرة ولا تزال. عكس ذلك عند المتلقي الغربي والمكتبات الغربية. إن أردت الحصول على كتاب "النبي"، أشهر كتبه بالإنجليزية، ابحث عنه في خانة الكتب الدينية، أو التي لها علاقة بالدين بصرف النظر عما إذا كان سماوياً أو "دنيوياً".

لا تعامل المكتبة العربية (= الجمهور العربي) كتابات جبران من زاوية أخرى غير الأدب، وبالتأكيد لا تراها كتباً "دينية" حتى وإن حمل أذيعها صيتاً عنوان: النبي. يريد جبران أن يصوِّر نفسه، أو بطله، نبياً، هذا، في أفضل الحالات، شأنه (وفي بعضها يصادرُ الكتاب كما حصل في القاهرة قبل بضع سنين!) ولكنه ليس نبياً.

الأنبياء معروفون، ومختومون، وهذا ليس واحداً منهم. قد يكون هذا ما سيقوله التلقي العربي للنبي. ولكنه ليس ما يراه التلقي الغربي. ففي أميركا باع كتاب "النبي" 9 ملايين نسخة، وفي العالم جاوز مائة مليون نسخة! هذا ليس شراءً لرواية أو ديوان شعر.

لا تبيع كتب الأدب، مهما ذاع صيتها، هذا العدد الفلكي من النسخ. فقط الكتب الدينية والروحية والحِكَمية و"الشفائية" يمكنها أن تبلغ هذا الشأن. باستثناء شكسبير فإن لاو تزو، الذي يسبق "نبي" جبران في المبيعات، قريب جداً من كتاب جبران. أو بالأحرى كتاب جبران قريب منه لأن هناك نحو ألفي سنة تفصل "كتاب التاو" للاو تزو عن "نبي" جبران، والتأثر الجبراني بـ "التاو" واضح.

ليست لدينا إحصاءات دقيقة لمبيعات الكتب في العالم العربي، فمن يعرف، فعلاً، كم يطبع الناشرون من الكتب؟ يقولون لك إنهم طبعوا ألف نسخة ولكنها قد تكون ألفين، أو أكثر! فمن يعرف، والحال، كم نسخة باع كتاب "النبي" في العالم العربي؟ طبعاً، لا يمكن، بحال من الأحوال، أن يكون بالملايين. وبصرف النظر عن حجم مبيعات "النبي" فهو يظل كتاباً أدبياً، بل ثمة من يراه رواية باعتبار أن هناك نوعاً من الشخوص والسرد والحوار فيه. 

جبران العربي

وضع جبران ستة عشر كتاباً في حياته نصفها بالعربية ونصفها بالإنجليزية. ورغم نجاح كتابه "النبي"، صانع شهرته في أميركا حيث كان يقيم، فقد ظل يقيم وزناً أكبر لكتابته في العربية. لم يداخله وهم، للحظة واحدة، بأنه ليس كاتباً عربياً وابناً للغة العربية ومعنيّاً بمصائر قومه رغم منفاه الجغرافي البعيد. قد يكتب الكاتب غير ما يقول بين أصدقائه. وهذا ليس انفصاماً بقدر ما أن الكلام، غير المرتب والمفكر فيه مسبقاً، يعبر عن أعماق المرء أكثر من الكتابة التي تتوجه إلى "آخر".

لم نسمع جبران يتكلم، بالطبع، ولكننا قرأنا رسائله إلى ماري هسكل. والرسائل بين صديقين أو حبيبين تكاد أن تخلو من التكلف والرسمية. فـ"الخطاب" ليس موجهاً إلى جمهور. وليس موجهاً إلى شخص يرغب في إدهاشه. إنه أقرب إلى البوح. وفي هذا البوح لم يتوقف جبران عن التغني بمنبته ولغته الأصل، وشعر بلاده الذي إذا خيِّر بينه وبين المسرح الإغريقي (حسب ما يورد توفيق صايغ في كتابه "أضواء جديدة على جبران"، رياض الريس، 1990)، يختار، بلا تردّد، الشعر العربي!

أما عن العرب، فحسب المصدر نفسه، يقول جبران لماري: "إن هؤلاء العرب الجبابرة الذين كانت روحهم غير محدودة على نحو غريب لم يفقدوا رؤيا الانسان الأولى، كما فعل الأغارقة والرومان الذين حاولوا أن يكونوا واقعيين فأخفقوا في أن يكونوا حقيقيين".

كم أنت مخطئ يا جبران!
المساهمون