ليس سهلاً أن يُكتَب عن التجربة الوثائقية للمخرج اللبناني جان شمعون (1944 ـ 2017)، بمعزلٍ عن حضور مي المصري (1959) فيها، التي شاركته الحياة والعمل منذ نهاية سبعينيات القرن الـ 20. ومع أن شمعون بدأ حياته المهنية مطلع السبعينيات نفسها، بعد عودته من باريس، إلا أن التداخل المهنيّ بينه وبين المصري، إخراجاً وإنتاجاً وتقنيات وأبحاثاً ومتابعات ولقاءات، يُصعِّب كلّ كتابة ممكنة عنه من دونها.
فالتداخل هذا غير محصورٍ بالأعمال تلك، بل أيضاً ـ وربما أساساً ـ منبثقٌ من التقارب الكبير بينهما في أفكارٍ والتزامات أخلاقية وثقافية وإنسانية، إزاء مسألتين أساسيتين: الهمّ الفلسطيني في فلسطين المحتلة ولبنان؛ وأحوال لبنان وتحوّلاته الجمّة في ظلّ حربه الأهلية (1975 ـ 1990)، وما خلّفته من آثار خطرة على الفرد والجماعة معاً. والمسألتان هاتان يُمكن اختزالهما بأمر واحد: الفرد ككائن بشري له حقوق إنسانية واجتماعية وحياتية، سواء كان يواجه احتلالاً إسرائيلياً في بلده، أو كان يُقيم في مخيمات التشرّد والألم والقهر؛ أو كان لبنانياً يواجه الاحتلال نفسه ويتصدّى له ويُقاومه، ويعاني خراب نظامه الحاكم، الذي ينفضّ عن كلّ مسؤولية له إزاء الناس والبلد، وإزاء الفلسطيني المدنيّ تحديداً، مانعاً عنه أبسط أمور العيش.
بهذا، يُمكن اختصار النتاج السينمائي الوثائقي لجان شمعون ومي المصري، علماً أن لكل واحد منهما فيلماً روائياً طويلاً واحداً، لن يتمكّن شمعون من تحقيق فيلم ثانٍ بعده، بسبب انشغالات وتحدّيات، قبل إصابته بمرض "ألزهايمر"، الذي أبعده عن العمل والحياة الاجتماعية والنشاطات المختلفة، خصوصاً تلك الخاصّة بالسينما، إذْ كان حاضراً في غالبيتها الساحقة، ليُشاهد الأفلام، ويناقشها ويتواصل مع مخرجيها ومشاهديها، بحيوية وحماسة مثيرتين للانتباه.
وإذْ يُمكن اعتبار "طيف المدينة" (2000)، الروائي الوحيد له، نوعاً من خلاصة لمجمل سيرته الثقافية والتزاماته الإنسانية والاجتماعية والحياتية؛ محاولاً سرد فصول التاريخ اللبناني، منذ الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان في ستينيات القرن الـ 20، وصولاً إلى النهاية الملتبسة والمعقّدة للحرب اللبنانية، والمصائر التي بلغها مقاتلون وزعماء وأفراد عاديون؛ إلا أن الروائي الوحيد لمي المصري، "3000 ليلة" (2015)، سيذهب إلى فلسطين المحتلة، وسيدخل أحد سجون الاحتلال الإسرائيلي، لكشف شيء من فظاعات العدو في التعامل مع نساءٍ لا يتخلّين عن بلدهن وأبنائهن ونضالاتهنّ من أجل الحرية والاستقلال.
لم تنفصل هواجس جان شمعون تلك عن المعاينة الدقيقة للتبدّلات الحاصلة، ولم يتناقض الهمّ الفرديّ مع تطلّعات الآخر، أقلّه في العناوين العامة للعمل الثقافي ـ الفني، ولمعنى السينما في مواكبتها حركة المجتمع والناس، وآليات مسارهما وتطوّراتهما، كما في معاينتها المأزق والوجع والقهر، والتقاطها نبض الأمل أيضاً. وهو، إذْ يلتزم تلك المفردات في عمله وحياته ويومياته في آن واحد، ينطلق من قناعة كان يُردّدها دائماً: "علينا أن ننقل آراء الناس الذين يتحمّلون، وحدهم، وزر المشاكل"، و"كلّما كنّا صادقين في ذلك، كان بوسعنا نقل آراء الناس"، مؤكّداً أيضاً أنه لا يستطيع "فبركة فيلمٍ لا علاقة له بالآخرين".
لذا، اجتهد جان شمعون ـ في أفلامه التي أنجزها كمخرج، أو تلك التي حقّقها مع مي المصري كمخرج ومنتج ـ كي يبقى أميناً لمبادئه، بأن يشتغل وفقاً لتيمات أساسية، هي: الواقع والصدق والقناعة الذاتية بالهمّ الإنساني للمهمّشين والمعذّبين والمقموعين، عبر علاقة حسية ومباشرة بأفرادٍ يلتقيهم كي يستمع إليهم، وإلى أسئلتهم ومسائلهم وأحلامهم. وهو، كما المصري تماماً، لا يكتفي بعلاقة سينمائية معهم، لأنه اعتاد التواصل الدائم معهم بعد انتهاء الفيلم وعرضه. أي أن التزامه قضايا الناس يُحتّم عليه استمرارية العلاقة بهم، إنسانياً واجتماعياً.
في أول أفلامه الوثائقية، "تل الزعتر" (1976)، نقل جان شمعون وقائع العيش في مخيّم اللاجئين الفلسطينيين هذا تحديداً، بداية الحرب الأهلية اللبنانية. وفي "أنشودة الأحرار" (1978)، انتقل إلى أمكنة أخرى من دون التخلّي عن الهاجس الفلسطيني لديه. ففيه، يُقدِّم صُوراً عن طموحات شعوبٍ في التحرّر والاستقلال، متابعاً أحوال تلك الشعوب في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، كي يصل إلى الحراك الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. لاحقاً، سيتوغّل في أحوال لبنان والمخيمات الفلسطينية، متعاوناً مع المصري في إخراج "تحت الأنقاض" (1983)، الذي يلتقط نبض الناس والعيش في ظلّ الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982؛ و"زهرة القندول" (1986)، الذاهب إلى الجنوب اللبناني لقراءة وقائع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي عبر حكاية امرأة لبنانية ودورها في ذلك؛ و"بيروت ـ جيل الحرب" (1988)، الذي يروي أحوال لبنانيين في ظلّ الحرب الأهلية، من خلال تجارب 3 أجيال عاشوها من داخلها، وعانوا أهوالها ومصائبها؛ و"أحلام معلّقة" (1992)، الذي يتابع توغّل شمعون والمصري في أحوال الحرب اللبنانية، ببحثهما في تأثيراتها على الناس والبيئات الاجتماعية والإنسانية التي ينتمون إليها.
من أفلامه التي تولّى إخراجها منفرداً: "رهينة الانتظار" (1994)، الذي يعود به إلى الجنوب اللبناني مجدّداً، ليرافق طبيبة في يومياتها، ويوميات أبناء بلدتها الجنوبية، في صراعهم مع العدو الإسرائيلي واعتداءاته عليهم وعلى قراهم وبلدهم.
اقــرأ أيضاً
فالتداخل هذا غير محصورٍ بالأعمال تلك، بل أيضاً ـ وربما أساساً ـ منبثقٌ من التقارب الكبير بينهما في أفكارٍ والتزامات أخلاقية وثقافية وإنسانية، إزاء مسألتين أساسيتين: الهمّ الفلسطيني في فلسطين المحتلة ولبنان؛ وأحوال لبنان وتحوّلاته الجمّة في ظلّ حربه الأهلية (1975 ـ 1990)، وما خلّفته من آثار خطرة على الفرد والجماعة معاً. والمسألتان هاتان يُمكن اختزالهما بأمر واحد: الفرد ككائن بشري له حقوق إنسانية واجتماعية وحياتية، سواء كان يواجه احتلالاً إسرائيلياً في بلده، أو كان يُقيم في مخيمات التشرّد والألم والقهر؛ أو كان لبنانياً يواجه الاحتلال نفسه ويتصدّى له ويُقاومه، ويعاني خراب نظامه الحاكم، الذي ينفضّ عن كلّ مسؤولية له إزاء الناس والبلد، وإزاء الفلسطيني المدنيّ تحديداً، مانعاً عنه أبسط أمور العيش.
بهذا، يُمكن اختصار النتاج السينمائي الوثائقي لجان شمعون ومي المصري، علماً أن لكل واحد منهما فيلماً روائياً طويلاً واحداً، لن يتمكّن شمعون من تحقيق فيلم ثانٍ بعده، بسبب انشغالات وتحدّيات، قبل إصابته بمرض "ألزهايمر"، الذي أبعده عن العمل والحياة الاجتماعية والنشاطات المختلفة، خصوصاً تلك الخاصّة بالسينما، إذْ كان حاضراً في غالبيتها الساحقة، ليُشاهد الأفلام، ويناقشها ويتواصل مع مخرجيها ومشاهديها، بحيوية وحماسة مثيرتين للانتباه.
وإذْ يُمكن اعتبار "طيف المدينة" (2000)، الروائي الوحيد له، نوعاً من خلاصة لمجمل سيرته الثقافية والتزاماته الإنسانية والاجتماعية والحياتية؛ محاولاً سرد فصول التاريخ اللبناني، منذ الاعتداءات الإسرائيلية على جنوب لبنان في ستينيات القرن الـ 20، وصولاً إلى النهاية الملتبسة والمعقّدة للحرب اللبنانية، والمصائر التي بلغها مقاتلون وزعماء وأفراد عاديون؛ إلا أن الروائي الوحيد لمي المصري، "3000 ليلة" (2015)، سيذهب إلى فلسطين المحتلة، وسيدخل أحد سجون الاحتلال الإسرائيلي، لكشف شيء من فظاعات العدو في التعامل مع نساءٍ لا يتخلّين عن بلدهن وأبنائهن ونضالاتهنّ من أجل الحرية والاستقلال.
لم تنفصل هواجس جان شمعون تلك عن المعاينة الدقيقة للتبدّلات الحاصلة، ولم يتناقض الهمّ الفرديّ مع تطلّعات الآخر، أقلّه في العناوين العامة للعمل الثقافي ـ الفني، ولمعنى السينما في مواكبتها حركة المجتمع والناس، وآليات مسارهما وتطوّراتهما، كما في معاينتها المأزق والوجع والقهر، والتقاطها نبض الأمل أيضاً. وهو، إذْ يلتزم تلك المفردات في عمله وحياته ويومياته في آن واحد، ينطلق من قناعة كان يُردّدها دائماً: "علينا أن ننقل آراء الناس الذين يتحمّلون، وحدهم، وزر المشاكل"، و"كلّما كنّا صادقين في ذلك، كان بوسعنا نقل آراء الناس"، مؤكّداً أيضاً أنه لا يستطيع "فبركة فيلمٍ لا علاقة له بالآخرين".
لذا، اجتهد جان شمعون ـ في أفلامه التي أنجزها كمخرج، أو تلك التي حقّقها مع مي المصري كمخرج ومنتج ـ كي يبقى أميناً لمبادئه، بأن يشتغل وفقاً لتيمات أساسية، هي: الواقع والصدق والقناعة الذاتية بالهمّ الإنساني للمهمّشين والمعذّبين والمقموعين، عبر علاقة حسية ومباشرة بأفرادٍ يلتقيهم كي يستمع إليهم، وإلى أسئلتهم ومسائلهم وأحلامهم. وهو، كما المصري تماماً، لا يكتفي بعلاقة سينمائية معهم، لأنه اعتاد التواصل الدائم معهم بعد انتهاء الفيلم وعرضه. أي أن التزامه قضايا الناس يُحتّم عليه استمرارية العلاقة بهم، إنسانياً واجتماعياً.
في أول أفلامه الوثائقية، "تل الزعتر" (1976)، نقل جان شمعون وقائع العيش في مخيّم اللاجئين الفلسطينيين هذا تحديداً، بداية الحرب الأهلية اللبنانية. وفي "أنشودة الأحرار" (1978)، انتقل إلى أمكنة أخرى من دون التخلّي عن الهاجس الفلسطيني لديه. ففيه، يُقدِّم صُوراً عن طموحات شعوبٍ في التحرّر والاستقلال، متابعاً أحوال تلك الشعوب في أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، كي يصل إلى الحراك الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. لاحقاً، سيتوغّل في أحوال لبنان والمخيمات الفلسطينية، متعاوناً مع المصري في إخراج "تحت الأنقاض" (1983)، الذي يلتقط نبض الناس والعيش في ظلّ الحصار الإسرائيلي لبيروت عام 1982؛ و"زهرة القندول" (1986)، الذاهب إلى الجنوب اللبناني لقراءة وقائع مقاومة الاحتلال الإسرائيلي عبر حكاية امرأة لبنانية ودورها في ذلك؛ و"بيروت ـ جيل الحرب" (1988)، الذي يروي أحوال لبنانيين في ظلّ الحرب الأهلية، من خلال تجارب 3 أجيال عاشوها من داخلها، وعانوا أهوالها ومصائبها؛ و"أحلام معلّقة" (1992)، الذي يتابع توغّل شمعون والمصري في أحوال الحرب اللبنانية، ببحثهما في تأثيراتها على الناس والبيئات الاجتماعية والإنسانية التي ينتمون إليها.
من أفلامه التي تولّى إخراجها منفرداً: "رهينة الانتظار" (1994)، الذي يعود به إلى الجنوب اللبناني مجدّداً، ليرافق طبيبة في يومياتها، ويوميات أبناء بلدتها الجنوبية، في صراعهم مع العدو الإسرائيلي واعتداءاته عليهم وعلى قراهم وبلدهم.