23 أكتوبر 2024
جائزة "اليونسكو": عمّان مدينة تعلميّة
تسلمت العاصمة الأردنية، في المؤتمر الثاني لمعهد التعلّم مدى الحياة التابع لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "يونسكو" الذي انتظم أخيراً في المكسيك، تسلّمت جائزة اليونسكو للمدن التعلّمية، والتي منحتها لها المنظمة الدولية، تقديراً لتقدمها المضطّرد في مساعي التحوّل إلى مدينة تعلّمية؛ أي بحسب معايير اليونسكو، مدينة تنشر المعرفة بين سكانها ضمن قنوات غير نظامية، وبشكل مستقل عن تلك النظامية المتمثلة بالمدارس والجامعات والمؤسسات الأكاديمية، الأمر الذي يعني أنها تنشر الثقافة، وتتيح تبادل الخبرات والمهارات والمعارف بين سكانها.
فازت عمّان بهذه الجائزة التي استحدثتها "اليونسكو" في عام 2013، في دورتها الأولى للعام الحالي، إلى جانب إحدى عشرة مدينة من أستراليا والبرازيل وإيرلندا والمكسيك وفنلندا وأثيوبيا وبريطانيا وكوريا والصين والبارغواي والفيليبين، منها دبلن ومكسيكو سيتي وبكين، كان لكل منها تجربتها في تطوير الفرص والممارسات لإتاحة المعرفة لسكانها في حياتهم اليومية. فهل ثمة فائدة من نقل مثل هذه التجربة إلى مدن عربية أخرى، خصوصاً أن منظمة المدن العربية أوكلت إلى عمّان مهمة استضافة مقر مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية، وترؤس إدارتها، قبل شهور؟
في تجربة عمّان، استفاد آلاف من السكان من البرامج الثقافية التي تقدمها أمانة عمّان التي تسلّمت الجائزة نيابة عن المدينة، والهيئات الثقافية الأهلية العاملة معها، على مدار السنوات الخمس الماضية، سواء من الكبار، أو من الفتيان والفتيات. تحقق ذلك بفضل ورش يومية للتواصل والتدريب وتبادل المعارف والخبرات التي يحضر كلاً منها عدد محدود، لا يتجاوز عشرين شخصاً، وبفضل التحول بالنشاط الثقافي إلى الميدان والساحات المفتوحة، وتقديم المنتجات الثقافية مباشرة للجمهور في معارض الكتب ومعارض الفنون والعروض المسرحية والفنية المختلفة.
بالطبع، لا معنى لذلك كله ما لم ينعكس إيجابياً على منظومة القيم التي تتحكم بالسلوك اليومي في المدينة، من قبيل احترام القانون والنظام العام، واحترام التنوع والتعدد والحق في الاختلاف داخل المجتمع. هنا، ليس ممكناً إجراء تقييم سريع، بعد بضع سنوات فقط من انطلاقة المشروع، للجزم بنجاحه أو فشله. واليونسكو حين منحت الجائزة لعمّان، فإنما منحتها إياها تقديراً لمشروعها الطموح، ومضيها خطوات واسعة في مجال التحوّل إلى مدينة معرفية، أما تقييم الأثر لمشروعٍ مثل هذا، في عمّان أو بكين أو ميلتون الاسترالية، أو غيرها، فيحتاج، من دون شك، عشرات السنين، يلحظ المراقب فيها كيفية تغيّر السلوك في المدينة، واتجاهاته.
في العالم كله، تتغير أساليب القيادة والتأثير في المجتمعات المحلية، لتلعب البلديات والمنظمات
ثمة أساس اليوم لحثّ المدن العربية على الالتفات إلى رعاية الإنسان، ثقافياً وحضارياً ومعرفياً، بشكل يتجاوز الطرق التقليدية القائمة على التعليم النظامي، بل يحتل مكانه في مسائل التثقيف وتشكيل الشخصية وتكوين الهوية الوطنية، هو المتمثل بالتفات منظمة المدن العربية إلى الدور الثقافي للبلديات. ذلك، بالطبع، التفات غير مسبوق، وتاريخي، ويبشر بالخير، فليس ثمة نشاط ثقافي تقوم به البلديات، وتتعاون فيه البلديات العربية، أكثر فائدة من فكرة المدينة التعلّمية، ومضامينها ذات الأبعاد الحضارية العميقة.
لا ريب أن ثمة مدناً عربية تمارس فعلاً مثل أدوار المدن التعلّمية، فالأمر ليس اختراعاً جديداً بالمطلق. على الرغم من ذلك، المدن العربية مدعوة، اليوم، إلى إطلاق مثل هذه الأدوار أو تعزيزها، من زاوية الاهتمام بانعكاساتها الحضارية على الأفراد. ذاك طريق مضمون للتقدم الحضاري للأجيال المقبلة، بعيداً عن اشتراطات السياسة وحساباتها. وقد تبدو مثل هذه الدعوة اليوم غريبة وسط كل ما يشهده العالم العربي من حرب وعنف ودمار، لكنها لن تكون أكثر غرابة من تخلينا عن توظيف كل الفرص المتاحة، من أجل التطوير الحضاري، والدخول مجدداً في التاريخ، والعودة إلى التأثير في الحضارة الإنسانية.