14 نوفمبر 2024
ثورة 25 يناير.. لماذا أحبّها المساكين؟
أنا من الناس الذين يفضّلون المشاهدة على المشاركة، وخصوصا في الأحداث الجماهيرية والصاخبة، ويكون لدوري المشاهدة واستمرارها أو الانسحاب هما غايتي، وغالبا أنسحب. إلا في يناير، فقد ملكت المشاهدة كل حواسّي، ولم أنطق بكلمة واحدة، فغالبا أخجل من الكلمات الرنّانة، والتي تقول كلاما يقترب من السماء، وأنا أتأمل نعلي وحالي. ولذا مكثت قرابة 55 سنة لم أذهب إلى لجنة انتخابية، ولا أعرف كيف تدار. ولم أدخل محكمةً في حياتي، ولو حتى محكمة جزئية، فقط أمر من أمام اللجان أو المحاكم وأعتبرهما من الأمور التي تخص البهلوانات وشهود الزور وبعض الأرزاق الأخرى التي أحترم إنسانيتها، ولا أتدخل في تفاصيلها أبدا.
قبل يناير بأيام، أحسست بذلك الإحساس الغامض بأن المسكين الذي داخلي يحاول أن يتملّص مني قليلا. ذكّرت نفسي بأنك لست بطلا، ولا تريد أيضا، وواصلت المتابعة. ولم ألتفت سوى لأشباهي من المساكين، وتركت أمر حسني مبارك وصلابته للريح، وواصلت المشاهدة والتأمل ما بين الناس نهارا وليلا وفجرا. في ليلةٍ، امتلأ ميدان التحرير عن آخره، ورقصت روحي حينما تطوّح رجل (ابن طريقة) بملابس قديمة وعمامة خضراء، وأخذ يتطوّح برايةٍ خضراء كلها. كانت الراية والعمامة وجسده كأنها غمامةٌ حلوةٌ ترقص في الهواء. وحده، كان هو ذلك الدرويش البسيط هو الذي لا يشعر بالناس، ولا حتى بالميدان، كان كأنه يطير على الرغم من أنه ثابتٌ في الأرض كأنه وتد. تمنيت ساعتها أن أكونه، أو أكلمه أو ألمسه، ونطقت روحي بعد دمعة: "هذه ثورة ومبارك انتهى". بعدها بأيام، انسحب مبارك إلى شرم الشيخ، تاركا ثعابينه لمراقبة المهمة، وتجهّزت ثعابينه في الأيام والشهور التالية بالعدّة والعتاد والحواة من كل ملةٍ ودين وحزب. تابعت هؤلاء المساكين فيما بعد في صفوفٍ طويلةٍ جدا بالساعات في خمسة استحقاقات انتخابية، وتابعت حكاياتهم البسيطة عن مبارك وفلوسه، وعن الستر، وعن الداخلية والظلم، تابعتهم في الشوارع والميادين ببقايا دماء جروحهم وبطاطينهم، من دون أن يتركوا الثورة، ويتقاسمون الخبز، وفي عيونهم الأمل، على الرغم من البرد والتعب. تابعتهم بصلبانهم البسيطة في ميدان التحرير، تابعتهم على كوبري قصر النيل بالآلاف، وامرأة كبيرة السن من ريف الجيزة جاءت، وقد تحزّمت بشال أسود، وفي يدها جريدةٌ صغيرة بسعفها.
تابعتهم في خطباء القرى والكفور من النساء وكبار السن، وهم يلقون كلماتهم البسيطة فوق منصات ميدان التحرير، وأنا أذوب خجلا من صمتي الذي لا يفيد، ثم تابعتهم في كلمة كمال أبو عيطة الذي صار وزيرا فيما بعد، في كلمةٍ قانونيةٍ وإدارية ماسخة جدا، قبل رحيل مبارك بأيام، قال فيها: "أنا رجل أفهم في الشؤون الإدارية جدا، وأقول لمبارك عليه أن يأخذ رصيد إجازاته الاعتيادية، وهي تكفي لست شهور وأكثر ويرتاح في منزله". ضجّ الميدان بالاستياء للكلمة، وبعضهم ضحك وبعضهم هلل، عرفت فيما بعد أن مثل هذه الكلمات كانت البداية، على استحياء، لخروج ثعابين الدولة والالتفاف على عنق الثورة من بداياتها.
تابعت حكايات المساكين سنتين، حتى حكى كاتبٌ كان متطوعا في القوات المسلحة، وحصل على معاشٍ مبكر في الثمانينيات، بعد أحداث الاتحادية التي أطاحت محمد مرسي، وخرجت فيها كل أطياف الثعابين علنا من الفجر حتى آخر اليوم، حكى ببساطة المساكين إنه دخل خيمة المحاربين القدماء من الضباط أمام قصر الاتحادية في 30/6، باعتباره "صف ضابط" على المعاش، وحكى بزلّة لسانٍ عن ثورة يناير وعن ميدان التحرير، فإذا بضابطٍ كبير مسؤول الخيمة يطرده قائلا: "وكمان جاي تحكي عن ميدان التحرير.. اطلع بره".
بعد حكاية الأديب الطيب المسكين، أدركت، بما لا يدع مجالا لأي شك، أن ثورة المساكين انتهت من الشارع، وأن مساءً ستنطلق كل الثعابين، وقد حدث، بل جاء اليوم الذي يخرج مبارك نفسه من تحت البطانية، ويرتدي النظارة، ويمشي ثابتا على قدميه، ويكون شاهدا على الرئيس محمد مرسي، في مشهدٍ من أغبى المشاهد المصنوعة في كل تاريخ الثورات.
قبل يناير بأيام، أحسست بذلك الإحساس الغامض بأن المسكين الذي داخلي يحاول أن يتملّص مني قليلا. ذكّرت نفسي بأنك لست بطلا، ولا تريد أيضا، وواصلت المتابعة. ولم ألتفت سوى لأشباهي من المساكين، وتركت أمر حسني مبارك وصلابته للريح، وواصلت المشاهدة والتأمل ما بين الناس نهارا وليلا وفجرا. في ليلةٍ، امتلأ ميدان التحرير عن آخره، ورقصت روحي حينما تطوّح رجل (ابن طريقة) بملابس قديمة وعمامة خضراء، وأخذ يتطوّح برايةٍ خضراء كلها. كانت الراية والعمامة وجسده كأنها غمامةٌ حلوةٌ ترقص في الهواء. وحده، كان هو ذلك الدرويش البسيط هو الذي لا يشعر بالناس، ولا حتى بالميدان، كان كأنه يطير على الرغم من أنه ثابتٌ في الأرض كأنه وتد. تمنيت ساعتها أن أكونه، أو أكلمه أو ألمسه، ونطقت روحي بعد دمعة: "هذه ثورة ومبارك انتهى". بعدها بأيام، انسحب مبارك إلى شرم الشيخ، تاركا ثعابينه لمراقبة المهمة، وتجهّزت ثعابينه في الأيام والشهور التالية بالعدّة والعتاد والحواة من كل ملةٍ ودين وحزب. تابعت هؤلاء المساكين فيما بعد في صفوفٍ طويلةٍ جدا بالساعات في خمسة استحقاقات انتخابية، وتابعت حكاياتهم البسيطة عن مبارك وفلوسه، وعن الستر، وعن الداخلية والظلم، تابعتهم في الشوارع والميادين ببقايا دماء جروحهم وبطاطينهم، من دون أن يتركوا الثورة، ويتقاسمون الخبز، وفي عيونهم الأمل، على الرغم من البرد والتعب. تابعتهم بصلبانهم البسيطة في ميدان التحرير، تابعتهم على كوبري قصر النيل بالآلاف، وامرأة كبيرة السن من ريف الجيزة جاءت، وقد تحزّمت بشال أسود، وفي يدها جريدةٌ صغيرة بسعفها.
تابعتهم في خطباء القرى والكفور من النساء وكبار السن، وهم يلقون كلماتهم البسيطة فوق منصات ميدان التحرير، وأنا أذوب خجلا من صمتي الذي لا يفيد، ثم تابعتهم في كلمة كمال أبو عيطة الذي صار وزيرا فيما بعد، في كلمةٍ قانونيةٍ وإدارية ماسخة جدا، قبل رحيل مبارك بأيام، قال فيها: "أنا رجل أفهم في الشؤون الإدارية جدا، وأقول لمبارك عليه أن يأخذ رصيد إجازاته الاعتيادية، وهي تكفي لست شهور وأكثر ويرتاح في منزله". ضجّ الميدان بالاستياء للكلمة، وبعضهم ضحك وبعضهم هلل، عرفت فيما بعد أن مثل هذه الكلمات كانت البداية، على استحياء، لخروج ثعابين الدولة والالتفاف على عنق الثورة من بداياتها.
تابعت حكايات المساكين سنتين، حتى حكى كاتبٌ كان متطوعا في القوات المسلحة، وحصل على معاشٍ مبكر في الثمانينيات، بعد أحداث الاتحادية التي أطاحت محمد مرسي، وخرجت فيها كل أطياف الثعابين علنا من الفجر حتى آخر اليوم، حكى ببساطة المساكين إنه دخل خيمة المحاربين القدماء من الضباط أمام قصر الاتحادية في 30/6، باعتباره "صف ضابط" على المعاش، وحكى بزلّة لسانٍ عن ثورة يناير وعن ميدان التحرير، فإذا بضابطٍ كبير مسؤول الخيمة يطرده قائلا: "وكمان جاي تحكي عن ميدان التحرير.. اطلع بره".
بعد حكاية الأديب الطيب المسكين، أدركت، بما لا يدع مجالا لأي شك، أن ثورة المساكين انتهت من الشارع، وأن مساءً ستنطلق كل الثعابين، وقد حدث، بل جاء اليوم الذي يخرج مبارك نفسه من تحت البطانية، ويرتدي النظارة، ويمشي ثابتا على قدميه، ويكون شاهدا على الرئيس محمد مرسي، في مشهدٍ من أغبى المشاهد المصنوعة في كل تاريخ الثورات.