ثورة هشام العسري السينمائية

08 فبراير 2015
+ الخط -

لم يكن صعباً على الجمهور، الذي تعرف إلى هشام العسري مع أفلامه القصيرة "وشم العذاب" (2002) "على جناح" (2004)، "بخط الزمان" (2005)، "محطة الملائكة" (2009)، التيقّن من أنه أمام تجربة سينمائية تدعو إلى الإنصات والتفكير، على غير ما جرت عليه العادة.

تجربة صادمة، تدهش في كل مرة، بوسائل مختلفة أو غير اعتيادية. تعزّز هذا المنحى، بسلسلة من الأفلام الروائية الطويلة وضعها المخرج المغربي الشاب (1977) في السنوات الأخيرة: "النهاية" (2011)، "هم الكلاب" (2013)، وأخيراً، "البحر من ورائكم" (2014)، المشارك حالياً في "مهرجان برلين السينمائي الدولي" (يستمر حتى الـ 15 من الشهر الجاري)، بعد مشاركته في النسخة الأخيرة من "مهرجان دبي السينمائي الدولي".

هذا التراكم أثبت أن للمخرج هموماً سينمائية ومشروعاً شخصياً عازماً على تحقيقه، ولذلك يخوض معركته مع الكاميرا، يروّضها، ويسائل لغتها، ولا يكتفي أبداً بما تقدمه له. يمكن القول إن تجربة العسري تحمل بصمة خاصة، تميزها عن كثير من تجارب السينما المغربية. تجربة ترسم سحابة قاتمة للواقع العربي، تريد أن تسائله عن وجهته. من أبرز ما يلفت الانتباه في أعمال هذا المخرج الشاب هو حرصه على كتابة نصوص أفلامه بنفسه.

نسأله عن هذا الخيار، وابتعاده عن محاورة الأدب المغربي العالمي والاقتباس منه، أو إسناد نصوص أفلامه إلى كتّاب سيناريو، فيقول: "إنجاز الفيلم بالنسبة لي عملية معقدة، لا تعتمد على القصة وحدها. وعلى اللغة السينمائية أن تنسجم مع هذه القصة. أدّعي أنني قارئ جيد للأدب العالمي والمغربي، ولكن إعجابي بالنص الروائي أتركه داخل حدود الأدب. النص الروائي الناجح لا يعني أنه قد يكون ناجحاً في ما لو حوّلناه إلى الشاشة الكبيرة. الفيلم الناجح يحتاج إلى قصة سيئة، كما يقول هيتشكوك".

ويصف العسري ولعه بالكتابة قائلاً: "أكتب مجموعة من النصوص وبشكل متواصل كل سنة. وفي النهاية، أختار منها فقط ما أراه معبّراً بشكل أكبر عن تصوري للفيلم الذي أريد الاشتغال عليه. وربما، إن صادفت نصاً روائياً يحقق هذه الغاية فسأشتغل عليه بكل تأكيد"، نافياً أي حكم مسبق تجاه العلاقة بين السينما والأدب، أو بين المخرج وكتّاب السيناريو.

معنى النجاح لدى صاحب "هُم الكلاب" يختلف عن التصور العام لنجاح الفيلم. فهو يفضل العمل "ذا النفس الطويل الذي يجد طريقاً للذاكرة". لذلك يبحث عن "الجمهور الذي يعطي للفيلم استمراره في الزمن، ويتناقله عبر ذاكرته وحديثه عنه".

هذا المتلقي بحسب العسري "هو الذي يعطي الحياة للفيلم السينمائي، الحياة الأفقية وليست الحياة العمودية". يضيف: "يعنيني من يبحث عن الفهم الصعب الذي يحتاج إلى الاستعداد الفكري". فكلما كانت القصة صعبة، بالنسبة إلى هذا الجمهور، زاد رضاه عن نفسه أكثر عند فهمه لها، وهذا يخالف الاتجاه السائد الآن تجاه السطحية والاستسهال. يقول: "أنا كمتفرج أو كمخرج أفضل دائماً الأفلام التي تعيش بشكل أفقي، وليس الأفلام التي تثير الضجة والنجاح ولكن تموت بسرعة".

أنجز هشام العسري ثلاثة أفلام في ظرف ثلاث سنوات؛ "النهاية" (2011) و"هُم الكلاب" (2013)، ثم "البحر من ورائكم" (2014)؛ وهي مدة قياسية بالنظر إلى الجودة التي تمتعت بها هذه الأعمال: "لا أقيس أبداً إنجاز الفيلم بمدة زمنية معينة. لديّ مبدأ واحد أحترمه، هو الاشتغال بشكل يومي ومتواصل". وحتى لو اختفى المخرج مدة طويلة، فإن هذا، كما يرى العسري، لا يعني اختياره الراحة، بل بحثه الحثيث عن قصص وأفكار مختلفة، إذ إن على المخرج "أن يحقق ذاته من خلال تراكم يحمل بصمته الخاصة، يضيف من خلاله شيئاً إلى تجارب السينما في العالم".

حتى إن لم ينجح أحد أفلامه، فهذا أمر لا يزعج العسري: "اؤمن بالاختلاف، والعلاقة بين الناقد والمخرج علاقة استفادة". يضيف: "على الفيلم أن يترك خلفه الاختلاف، ولا يمكن أن يتكلم الجميع لغة واحدة حوله". وعن التناقض الذي تعيشه السينما المغربية بين الرهان على الإنتاج وعدم وجود قاعات للعرض من الأساس، يرى صاحب "البحر من ورائكم" أن الفيلم يجب أن يُنجز، سواء وجدت القاعة أم لا:

"الفيلم وثيقة للتاريخ، نرصد من خلالها تغيراتنا الاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، ولا يمكن أن ننتظر وجود قاعة لكي ننجز فيلماً. هناك أفلام خالدة لم تعرض قط في القاعات، والجمهور تعرّف عليها بعد زمن طويل من إنتاجها". أما بالنسبة إلى مشكلة ندرة القاعات، فالعسري يفضل البحث عن صيغة مناسبة لدعمها لكي تصبح وجهة استثمارية مغرية. في المقابل، لا يعني كمّ الأفلام المنجزة والمعروضة خلال السنة "توافرها على الجودة بالضرورة".

لا يمكن الحديث عن تجربة هشام العسري من دون ذكر التجريب، فالكاميرا طيّعة بين يديه، خصوصاً في أفلامه الثلاثة الأخيرة. يقول عن صراعه مع الكاميرا: "للسينما لغتها التي تتمثل في وسائلها التعبيرية المتاحة، ودور المخرج يأتي في مساءلة هذه اللغة. علينا أن نثبت أن الكاميرا ليست تسجيلية فقط، وعلى المخرج أن يخلخل لغتها ويختبر تخوماً بعيدة فيها، كما حصل للغة الشعر والنثر تماماً. وأنا دائم البحث عن وسائل تلائم تصوري للقصص التي أعمل عليها".

يحضر الواقع المغربي في جميع أفلام العسري بصور قاسية وصادمة، وهو إذ يتناوله فإنه يقدمه بشكل مخالف لما تم تقديمه في أفلام مغربية سابقة كمادة للمتاجرة. يشرح هشام العسري تصوره للاشتغال على الواقع بالقول: "إن السينما المغربية يجب أن تحمل في سماتها الواقع المغربي، ولكن هذا لا يعني أن يكون المغرب قفصاً. القصص يجب أن تجعلنا نحلم ونتخيل أشياء لاحدود لها".

ويضيف بلهجة حاسمة: "أنا أحارب اتجاهاً سائداً في السينما المغربية والعربية والأفريقية عموماً، فقد أصبح نمطياً تقديم قصص متعلقة بالهجرة أو الفقر، أو معاناة المرأة. هذا توجه يتاجر بقضايا الشرق، وهو اتجاه يقدم مادة سهلة للآخر تحقق ربما شهرة ولكنها لا تقدم سينما حقيقة. الفيلم يجب أن يتميز بجانبه الفني".

ويرى أيضاً أن "هناك من يحاول إسقاط قصص أجنبية على المغرب سينمائياً، من دون أن يكون له احتكاك بهذا البلد ولا معرفة به. على المخرج أن يبحث عن خصوصيته وقصص تميزه عن غيره. لا نريد أن نشاهد استنساخاً لقصص أفلام مغربية ناجحة ونعيد تكرارها". "بالنسبة لي"، يقول هشام العسري، "لدي صراع مع السينما نفسها: أحاول رصد تناقضات المجتمع: من التخلف، إلى السياسة، مروراً بالخوف، وانتهاء بانتظارات المواطن المغربي ووجهته الضائعة. هذه الأسئلة المهمة هي التي تشغلني أكثر من أي شيء".

دلالات