ثلاث مقاربات لإدماج الأقليات في الغرب

16 يناير 2015
مسلمو ألمانيا يتضامنون مع "شارلي إيبدو" (شول غالوب/getty)
+ الخط -
أعادت هجمات باريس، الأسبوع الماضي، على مجلة "شارلي إيبدو"، ومتجر يهودي، نقاشاً قديماً جديداً في الغرب حول المقاربات الغربية المختلفة في إدماج الأقليات العرقية والدينية، وخصوصاً المسلمين.   
وكان الشقيقان الفرنسيان، من أصول جزائرية، سعيد وشريف كواشي، قد اقتحما مقر المجلة الساخرة "شارلي إيبدو"، والتي سبق لها أن نشرت رسوماً كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد، وقتلا عشرة من صحافييها، وشرطياً في الخارج، فيما قام شاب فرنسي مسلم آخر، صديق لهما، واسمه أميدي كوليبالي، باحتجاز مجموعة من الفرنسيين في محل لبيع المنتجات اليهودية، شرق باريس، قبل أن تتمكن قوات الأمن من قتله وتحرير الرهائن. كما وقع هجوم آخر في باريس راحت ضحيته شرطية.
ورغم أن تلك الهجمات أطلقت صافرات الإنذار الأمنية في العواصم الغربية خشية من هجمات إرهابية محتملة، غير أنّها تسلّط الضوء في الوقت نفسه على مشكلة استيعاب المسلمين في الدول الغربية.

ثمة حقيقة لا مراء فيها اليوم، تتمثل في أن نسبة معتبرة من الشباب المسلم اليافع الذي يحمل الجنسيات الغربية، يشعر بغضب شديد على سياسات هذه الدول في العالمين العربي والإسلامي، ويرى فيها حرباً موجهة ضدّ الإسلام. ولأن هذه الحقبة من عمل التيار "الجهادي" الإسلامي أصبحت تركز أكثر على تجنيد وتدريب الشباب الغربي المسلم بـ"الإلهام"، عبر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والأطباق التلفزيونية اللاقطة، فإن ثمة نقاشات كثيرة حول أي المقاربات أفضل وأكثر نجاعة لإدماج المسلمين في الغرب في المجتمعات الأوسع، وإنهاء عزلتهم، التي توظفها، حسب هذا المنطق، تيارات "العنف" الإسلامي.
وفي هذا السياق، تُطرح ثلاث مقاربات في ثلاث دول غربية، وهي بريطانيا، فرنسا والولايات المتحدة.

أولاً مقاربة التعدّد الثقافي
وهي المقاربة التي تتبعها بريطانيا في تنظيم علاقات مكوّناتها العرقية والدينية المختلفة، وتقوم على قاعدة "عش ودع غيرك يعيش". وحسب تقرير للصحافي ستيفن فيدلر، في صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية في عددها الصادر في الثامن من الشهر الجاري، فإن هجمات السابع من يوليو/ تموز عام 2005 في لندن والتي نفذها مسلمون وقُتل فيها 52 شخصاً، عَرَّتْ مقاربة التعدد الثقافي، إذ اكتشفت الحكومة البريطانية حينها أنه ليس من المفيد أن تترك المسلمين البريطانيين يتحركون في حالة عزلة تامة عن المجتمع الأوسع.
ويصل عدد المسلمين في بريطانيا اليوم، إلى حوالي ثلاثة ملايين شخص، ويشكلون ما نسبته 4.5 في المئة تقريباً من إجمالي عدد السكان، وهي نسبة ليست بالقليلة، وإن بقاءها خارج النسيج العام للمجتمع يطرح تحديات ومخاطر حقيقية على الدولة البريطانية.


غير أن مشكلة بريطانيا مع مسألة "الهوية الجمعية"، جراء اعتمادها مقاربة التعدد الثقافي، أكبر من أن تنحصر في مشكلة إدماج المسلمين. وتشير الكاتبة البريطانية الأميركية، فرانسيس ستيد سيلر، في مقال لها في السابع عشر من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي في صحيفة "واشنطن بوست"، إلى أزمة أعمق ترتبت على هذه المقاربة، وتكمن في سؤال "مَن هو الإنجليزي؟".
وارتبط سؤال سيلر حينها في استعدادات اسكتلندا للاستفتاء على الاستقلال عن المملكة المتحدة أو البقاء ضمن إطارها الوحدوي. ومع أن الاسكتلنديين صوّتوا بأغلبية كبيرة للبقاء ضمن المملكة المتحدة، غير أن مسألة "الهوية الجمعية" في بريطانيا بقيت قائمة ولم تجد لها حلاً بعد، وهو ما يعني بقاء المجتمع البريطاني مشظّى من ناحية انتمائه وتفكك مكوناته المختلفة بعضها عن بعض، وفي مقدّمتهم المسلمين.

ثانياً، مقاربة العلمانية الصارمة
في مقابل النموذج البريطاني الذي يقوم على السماح بالتعدد واحترام الخصوصيات الثقافية لمكوناته المختلفة، فإن فرنسا تتبع أسلوباً مناقضاً تماماً وصارماً، في محاولة إدماج الأقليات فيها ضمن قيم الجمهورية. وحسب تقرير فيدلر، فإن آلية عملية الإدماج التي تعتمدها فرنسا تقوم على أن العلمانية هي الأسلوب الوحيد للتعبير عن قيمة الوحدة في فرنسا. فالجمهورية الفرنسية ترفض الاعتراف بالانتماءات الدينية والعرقية، وتحصر وظيفة هذه الانتماءات وعملها في الفضاء الشخصي. ومن هنا، فإن فرنسا، مثلاً، قامت عام 2004، بمنع ارتداء أي أزياء في المدارس وأماكن العمل الحكومية تُظهر الانتماء الديني، كالحجاب والعمامة للسيخ والمسلمين، أو طاقية الرأس لليهود، ثم أتبعت ذلك بقرار آخر عام 2011 يمنع المسلمة من تغطية وجهها، "النقاب".
غير أن هذه العلمانية الصارمة التي تتبعها فرنسا وإهمالها للانتماءات العرقية والدينية، إضافة إلى الفقر والتهميش اللذين يحيا في ظلالهما المسلمون في أحياء معزولة فيها، حيث ترتفع معدلات الجريمة، فضلاً عن ضعف الاقتصاد الفرنسي وصعود اليمين العنصري المتطرف فيها، ضاعف من شعور المسلمين بالتهميش، ودفع بكثير من أبنائهم إلى الغضب على المجتمع ككل.

وتتضاعف مشكلة فرنسا مع مواطنيها من المسلمين إذا ما أخذ بعين الاعتبار أنها احتضنت أكبر نسبة من المسلمين في أوروبا، إن لم يكن في العالم الغربي كله. وحسب إحصائيات عديدة، فإن أعداد المسلمين في فرنسا تراوح بين 5 و6 ملايين نسمة، بنسبة 6 إلى 8 في المئة من مجموع السكان. ويعد الإسلام ثاني أكبر دين في فرنسا بعد المسيحية الكاثوليكية.

ثالثاً مقاربة "بوتقة الصهر"
وهي المقاربة الأميركية لمحاولة إدماج خليط من العرقيات والأديان والألوان في مجتمع واحد قام على التعددية منذ اليوم البداية. وتفترض هذه المقاربة أن البوتقة الأميركية تصهر وتذيب عناصر غير متجانسة لتصبح أكثر تجانساً، بحيث تنتظم جميعها ضمن قيم عليا مشتركة وانتماء أعلى للبلد. وقد استخدم تعبير "بوتقة الصهر" لوصف استيعاب المهاجرين إلى الولايات المتحدة، خصوصاً أن الأخيرة هي في الأصل بلد من المهاجرين.
غير أن مفهوم "بوتقة الصهر" لا يتطلّب تخفيف الخصوصيات الثقافية والدينية أو يعمل على إلغائها، بل يقوم على دمج تلك الخصوصيات ضمن نسيج مجتمعي متناغم يقبل بالآخر، بشرط أن ترتبط بالمجتمع الأكبر. وبالتالي، فهو يختلف عن النموذج البريطاني بأنه لا يسمح بتطور مكوناته المختلفة بعيداً عن المجتمع الأوسع المكوّن من الجميع، بل إنّ هذا التطور ينبغي أن يكون داخله، كما أنّه يختلف عن النموذج الفرنسي بأنّه لا يسعى إلى تهميش الخصوصيات الدينية والثقافية، ولا إلى إلغاء الانتماءات العرقية.
وتراوح أعداد المسلمين في الولايات المتحدة بين 2 إلى 6 ملايين مسلم ويشكّلون ما نسبته 0.6 و 2.4 في المئة من عدد السكان الكلي. ويعود هذا التفاوت الكبير، إلى أنّ النظم الأميركية لا تسمح بالسؤال عن الدين عند قيامها بإجراء عمليات الإحصاء السكاني، وهذا ما أدى إلى تباين الدراسات المسحية التقديرية المختلفة لأعداد المسلمين التي جرت في الولايات المتحدة.

قد تكون المقاربة الأميركية هي الأنجح، إلى اليوم، في مساعي إدماج الأقليات الدينية والعرقية في نسيجها المجتمعي الأوسع، ولا شك أن المسلمين الأميركيين يعيشون أوضاعاً اقتصادية واجتماعية أفضل من كثير من نظرائهم في البلاد الغربية الأخرى. غير أن هذا لم يعن أن كثيراً من شبابهم اليافع لم يتوجه إلى العنف والانتماء إلى تيارات "جهادية" تصوّب عملياتها نحو الولايات المتحدة نفسها. وهذا ما يثير تساؤلات كثيرة حول ما إذا كانت المشكلة، فعلاً، تتركز في آليات الدمج ومقارباته.
ولذلك، فانّ حلّ هذه المشكلة يعود إلى جوهرها، ويكمن في نقاش جدّي حول السياسات الخارجية للدول الغربية نحو العالم العربي والإسلامي، ودعمها لأنظمة ديكتاتورية، وحروبها العدوانية التي تشنّها على عدد من الدول العربية والإسلامية، وفتحها المجال أمام التطاول على الرموز الإسلامية. ولذلك، لا يتوقع نجاح أي مقاربة لإدماج المسلمين في بلاد المهجر، إن لم تترافق مع نقاش السياسة الخارجية.