ثلاث جبهات حزينة

10 سبتمبر 2015
+ الخط -
في كل مكان في رام الله، تجد شخصاً يتذمر من شخص آخر حل محله في الوظيفة، لأن لا واسطة له، أو لأن واسطة الآخر أقوى وأنفذ، فللآخر عم في الأجهزة الأمنية، أو مدير عام صديق لوالده في وزارة كذا. لن يطول بحثك عن أصحاب العيون الحزينة، فهم في كل مكان، فقط حدّق جيداً في الوجوه، وانظر النزيف والخوف والانسحاق. وهكذا لا تتوقف قصص الفقر والحيرة والغضب والعجز، في الشارع الفلسطيني، فالبسطاء والفقراء الذين لا حول ولا قوة لهم لا يجدون من يشرح ألمهم، فالصحافة الفلسطينية لا تتبنى، في المجمل، قضايا الإنسان المقصي أو المظلوم، ولا تتجرأ على الدفاع عن المسحوقين الذين ليس لهم خال أو صهر أو صديق في وزارة ما أو جهاز أمني ما. وهكذا تعيش فلسطين، هذه الأيام، أغرب وأعقد حالة ظلم في تاريخها، ثمة ثلاث عتمات- جبهات، تنهش بهستيريا فاضحة كرامة ومصالح الفلسطينيين: (الانقسام والفساد والاحتلال). 
أينما تولي وجهك، ثمة أم شهيد تشكو حنينها المتعاظم لروحها التي غابت، وثمة أب يتنفس غياب ابنه المأسور في ظلمات الاحتلال، ابنه الذي انتزع من بيته (ويا لجنون المفارقة) خلف معسكر لقوات الأمن الفلسطيني، وثمّة رجل ستيني خائف ومتألم، يشكو انقسام أسرته بين حمساوي وفتحاوي.
لم يعش الفلسطينيون أغرب من حالة ملتبسة كهذه، تناضل فلسطين على ثلاث جبهات، وتخسرها، يومياً، بشكل محزن. ثمة جبهة الفساد، وهناك الفلسطيني المقصى الفقير والبسيط، وهو ضحية ممتازة يومية جاهزة لمطحنة الفساد بتنويعاته ومستوياته كافة، ثمة جبهة الاحتلال، حيث قتل يومي وقلع أشجار وهدم بيوت واعتقالات، وثمة جبهة الانقسام ، وألم فريد يطحن الفلسطينيين، ويدمر أحلامهم ويشوه تاريخهم، هو الانقسام. لم يعش الفلسطينيون حالة تشبه حالتهم هذه منذ النكبة. في ما مضى، كان كل شيء واضحاً ومحدداً، ثمة شعب مظلوم ودولة ظالمة، لا مجال لفجوات أو فراغات في هذا المشهد، لا مجال لشرح أو تنظير. هذه الأيام، انكسر المشهد، وسالت الحواف وانقسم الظل، ولم نعد نعرف جواب السؤال التالي: كيف يموت فلسطيني مناضل على يد فلسطيني مناضل، وفي وجود الاحتلال؟
قبل "أوسلو"، كانت الجبهة واحدة، هي الاحتلال، كل الجهود والطاقات محتشدة خلف فكرة مقاومته، لم يكن ثمّة فساد واضح، لأنه لم يكن ثمّة مؤسسات ووزارات ومسؤولون ودول مانحة، ولم يكن هناك انقسام. شعب واحد، كل فرد فيه يتعرّض للتعب والإهانة على الحواجز العسكرية، لا فرق بين فلسطيني وآخر، لا فرق بين بطاقة هوية وأخرى على جسر الملك حسين. نظرات الإهانة والتقليل من الشأن التي يبثها الجنود الإسرائيليون المنتشرون في الشوارع لا تفرّق بين شخص وآخر، قد يلتقي مليونير فلسطيني مع آذن مدرسة فلسطيني في طابور في ساحة اعتقال، أو مكتب هويات، تديره الإدارة الإسرائيلية المدنية. الآن، لم تعد الصورة كما كانت، ثمة أشخاص يمرّون عن الحواجز، بسهولة، وطمأنينة، المطلوب فقط إبراز بطاقات معينة، تثبت أنهم من موظفي السلطة الكبار.
هي مرحلة التيه الفلسطيني الكبير، زمن الغرابة والالتباس واللاوضوح، ينسحق في أتونه البسطاء الذين لا عقيد أو وكيل وزارة أو لواء يعرفونه أو يتوصلون إليه، ليسهل لهم أمور الحياة، المفجع أن مرحلة هؤلاء اللصوص هي نفسها مرحلة الاحتلال، كيف أفسّر أو أشرح الصورة التالية: في لحظة سقوط ليث الخالدي، ابن مخيم الجلزون شهيداً، كان لص ما يسرق مؤسسة ما، وكان لواء في جهاز أمني ما يتصل بوزارة ما ليوظف شخصاً ما، لا يحمل مؤهلات الوظيفة غالباً، ويكون ثمنَ هذا الوظيف شخصٌ مسكين يستحق، ينتظر الوظيفة نفسها قبله، وكان هناك سجين فتحاوي يدخل سجناً حمساوياً وسجين حمساوي يدخل سجناً فتحاوياً.
ثلاث جبهات حزينة، يعود منها الفلسطيني البسيط مهزوماً دوماً.

4855FC54-64E3-49EB-8077-3C1D01132804
زياد خداش

كاتب قصة فلسطيني، مواليد القدس 1964، يقيم في رام الله، يعمل معلما للكتابة الإبداعية، له عدد من المجموعات القصصية.