ثلاثة نصوص مبعثرة

28 اغسطس 2018
كيف لي أن أُصدّق الطرفين؟ (فرانس برس)
+ الخط -
الكنيسة وبيدر القمح

في صيف 1952، قرر والدي أن يلتحق بسلك الشرطة. في تلك الليلة الصيفية، كان قمحنا المحصود مكّوماً على البيدر بانتظار "الدرس"، وكنت أنام مع والدي عند قمة الكومة، لحراسة القمح من اللصوص والدواب، رغم قرب البيدر من الكنيسة، التي يجب أن تحمي الجميع من الأشرار. في تلك الليلة المقمرة سمعت أبي يتحدث إلى صديقين من أصدقائه من أجل الاتفاق على ساعة الانطلاق، صباحاً، إلى مصياف، التي تبعد عن قريتنا 15 كم، لإجراء فحوص الدخول إلى سلك الشرطة. كنت أتظاهر بالنوم، وقررت ألّا تفوتني فرصة مرافقة والدي.

كان من السهولة بمكان أن تستيقظ، مهما كنت تعباً في اليوم السابق، مع وصول الخطوط الأولى للشمس إلى وجهك، وهكذا استيقظت لأجد أن والدي غير موجود بجانبي، ولم أكن في حاجة لأكثر من وضع "الشاروخ" (الصندل) في قدميّ، والانطلاق راكضاً على الطريق الذاهب باتجاه مصياف. بعد حوالي نصف ساعة من الجري دون توقف، كنت قد صرت خلف أبي ورفاقه، وعندما رآني أحدهم، أخبر أبي، الذي التفت ورآني، ثم ترك أصدقاءه وسار نحوي. لم أكن أخاف عقابه، لأنه لم يحدث أن عاقبني. وصل إليّ وأمسك يدي الصغيرة بين يديه قائلاً: سنعود معاً إلى القرية، وستنتظرني هناك حتى أعود. لا نستطيع أن نترك البيدر دون حراسة، وأنت ستكون الحارس في غيابي، وإلا فلن يكون عندنا هذا العام "مونة" من البرغل والطحين للشتاء، هل تحب أن نبقى دون طعام يا ابني الشجاع؟

أوصلني أبي إلى البيدر وقفل عائداً ليلتحق برفاقه، وبعد أشهر أصبح شرطياً "قدّ الدنيا"، لأصبح بعد ذلك، ابن الشرطي، بعد أن كنت ابن الفلاح. وأدخلنا أبي بعمله هذا، في عالم ساحر؛ عالم المدينة...

لبن

عام 1954، كنا كعائلة، نسكن حي المزة الدمشقي. كان والدي الشرطي قد عثر هناك على غرفة كبيرة للإيجار، تتسع لأولاده الخمسة. في أحد الأيام طلب مني شراء كيلو من اللبن. خرجت وبيدي صحن، وبعض الفرنكات في اليد الأخرى، ودخلت أول دكان وقعت عيناي عليه. كان لسوء حظي دكان خياط. طلبت منه كيلو لبن، فضحك وقال: "عمو هون دكان خياطة، من شان اللبن روح على هداك الدكان"، مشيراً بإصبعه إلى دكان يقع في الطرف الآخر من الشارع.

كنت أعتقد أن العالم يجب أن يكون على صورة قريتي، التي تركتها حديثاً، حيث الأشياء كلها موجودة في دكان واحد. ومرت السنوات ولم أستطع فرز القرية عن المدينة في عقلي، وفي كثير من ممارساتي اليومية. أحياناً تتقدم مفردات القرية في عقلي وعلى لساني، ومرات تتراجع، ولكن الخلط كان حاضراً في كثير من الأوقات.

عندما أسترجع بعض صور الماضي، وأقيسها على معارفي الحالية، أقترب من فهم سلوك حكام سورية الذين ربما، وجدوا أن أسهل طريقة لإنهاء هذه الازدواجية بين القرية والمدينة في حياتهم، هي في تحويل المدن السورية إلى قرى كبيرة الحجم، وكثيرة في عدد سكانها. وهكذا، ربما، تم ترييف سورية...

المؤمنون

كلّ هذا القتل في سورية، وكلّ هذا الخراب، والملايين التي أُجبرت على ترك بيوتها وبلدها، وعشرات آلاف القتلى، ومثلهم من المفقودين، وملايين الأطفال الذين أصبحت الشوارع مدارسهم وبيوت بعضهم، والقمامة بعض طعامهم، كلّ هذا وغيره لم يدفع إحدى السيدات السوريات للتوقف وإعلان غضبها على النظام الذي كان السبب في ذلك. ولكنها توقفت طويلاً عندما رأت إحدى صوري في مدينة قونية التركية في ميضأة أحد الجوامع، وأنا أغسل وجهي ويدي وقدمي في يومٍ صيفيّ حارٍ أمضيته في زيارة المواقع الأثرية السلجوقية، فقالت لصديق التقيته أمس ونقل لي ما جرى منذ أشهر، قالت المرأة للرجل الذي تعرف أنه صديقي: "يا أخي هو حرّ، فليُعلن إسلامه ويغيّر اسمه ويخلصنا، ولكن أن يكون مسلماً واسمه ميخائيل... فهذا فيه بهدلة للمسيحيين!".




كان بودّي أن أضحك في نهاية الخبرية، ولكن بعد قليلٍ فكّرت أن عقل هذه المرأة المسيحية يُشبه عقل ذلك الرجل الذي تمنّى أن يهديني الله وأكون مسلماً. وتساءلت مع نفسي بالسرّ، ومع صديقي بالعلن: لو كنتُ على يقينٍ بأنّ مسيحيتي ستُحقق السلام والعدل والحرية في سورية لما تردّدت في إعلانها وممارستها، ولو كنتُ على يقينٍ بأنّ إسلامي سيُؤدي الى ما يحلم به الشعب السوري من حرية وعدالة وديمقراطية، لما تردّدت لحظةً في إشهار إسلامي، ولكن كيف لي أن أُصدّق الطرفين وأنا أرى أنهما لم يفعلا شيئاً لكلّ تلك الملايين المُعذبة منذ سنوات إلا تجاهل عذابها، وفي أحسن الأحوال الدعاء لها بالخير أثناء الصلوات؟

كان الله في عون السوريين، وبخاصةٍ بعد أن تخلَّى عنهم "المؤمنون" من كلّ الأديان!
المساهمون