ثلاثة أبيات أخطأ فيها الشرّاح

18 اغسطس 2018
(تمثال المتنبّي في بغداد، تصوير: علي الغرباوي)
+ الخط -

مَدحتُ قوماً وإن عشنا نظمتُ لهُم/ قصائداً من إناثِ الخيلِ والحُصُنِ
تحتَ العَجاجِ قوافيها مُضمَّرَةً/ إذا تُنوشِدنَ لَم يَدخُلنَ في أُذُنِ
فلا أُحاربُ مدفوعاً إلى جُدُرٍ/ ولا أُصالحُ مغروراً على دَخَنِ

هذه أبيات يتفق الشُرّاح جميعهم على أن أبا الطيب المتنبي كان يريد بها ما معناه أنه مدح كثيرين كانوا لا يستحقون الثناء، وكان الأجدر أن يجهّز جيشاً لحربهم، أو أنه يتمنّى ذلك من بعد ما مدحهم وتيقّن من عدم استحقاقهم المديح. وبموجب هذا الشرح المتفَّق عليه فإن الجيش بهذه الأبيات يكنّى عنه بالقصائد ويراد فيها بالقوافي الخيول.

يقول أبو العلاء المعري في شرحه أول الأبيات الثلاثة المختارة هنا: "مدحت قوما رجاءً في العطاء، فلو عشت نظمت لهم قصائد من الخيل. وأراد به جمع الجيوش، ولما جعلها قصائد قال: نظمت". والمعري بهذا الشرح يتواصل مع شرح ابن جني الذي ذهب إلى أن المتنبي "يعني بالقصائد هنا جيوشاً".

ولا يبتعد العكبري، المتأخر عن ابن جني والمعري بما لا يقل عن مئتي عام، عن هذا كثيراً، بل هو يستند إلى شرحيهما السابقين عليه وينطلق منهما في شرح أشد توضيحاً، فهو يذهب إلى أن المتنبي كان يعني بالأبيات: "مدحت قوماً لم يستحقوا المدح، لبخلهم وجهلهم، ولكن إن عشت غزوتهم بخيل إناث وذكور، وجعل الخيل كالقصائد المؤلفة التي مدحهم بها".

كما لا يختلف الحال لشارح آخر مثل ابن سيده اللغوي الأندلسي، فهو أيضاً ينطلق مما قال به ابن جني، ومن بعده المعري، حين يقول: "عنى بالقصائد: الجيوش، وإنما كنى عنها بذلك، لقوله: (مدحت قوماً) واستعمل النظم مكان الحشد".

يؤكد الشراح هذا المعنى، الذي يذهب إلى رغبة المتنبي بحشد الجيوش للحرب على أولئك الممدوحين ممن لا يستحقون المديح، كما نظم من قبل القصائد فيهم، وذلك في شرحهم البيت الثاني: تحتَ العَجاجِ قوافيها مُضمَّرَةً/ إذا تُنوشِدنَ لَم يَدخُلنَ في أُذُنِ.

فابن جني يقول في (الفتح الوهبي): "ويعني بالقوافي الخيل وإذا جادت القوافي جاد الشعر". ثم يورد هذه الرواية: "حدثني أبو بكر أحمد بن عبد الله الطبراني قال: سمعت الوليد بن عبيد الطائي البحتري يقول: سمعت ابن الأعرابي (يقول): استجيدوا القوافي فإنها حافر الشعر".

وهذا الشرح يتكرر نفسه لدى المعري: "وأراد بالقوافي: الخيل؛ فلذلك قال: (مضمرة)". لكن المعري (يجتهد) فيضيف على ما قاله ابن جني:" وبين أنها تخالف سائر القوافي، لأنها لا تدخل في الأذن".

العكبري (يطوّر) شرح المعري، ومن قبله ابن جني، بالقول: "قوافي القصائد خيل مضمرة، تحت العجاج، وليست من القوافي التي إذا أُنشدت دخلت في الأذن، لأن هذه القوافي خيل، ووصفها بالتضمير، وهو مدح للخيل، وكذا القوافي التي إذا جادت جاد الشعر"، ثم يورد ما كان قد رواه ابن جني عن ابن الأعرابي عن القوافي بوصفها حوافر القصيدة.

ويستعين الشراح بالبيت الثالث لتأكيد أن المتنبي يريد بهذه الأبيات الرغبة بحشد جيش للحرب على من لا يستحق المدح ممن كان قد مدحهم، فهو بيت ينصرف فعلاً إلى طبيعة حربية وأخلاقية ويبتعد عن هذه المقاربة ما بين القصيدة والجيش، ما بين الشعر والحرب كواقعة. واقعاً كان الشراح يواصلون شرحهم للبيت في ضوء القناعة المحسومة لديهم بأن المتنبي كان يتمنى حشد مثل هذا الجيش، لم يعنهم التأكيد الذي أشرت إليه.

ولكن هل كان المتنبي فعلاً يريد هذا المعنى؟ هل حقاً أن هذه الأبيات تقف عند هذا المعنى حصراً فلا تعبّر عن سواه؟

هذه الأبيات هي بعض من قصيدة نونية قالها أبو الطيب في مدح أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الخصيبي، وكان قاضياً في إنطاكية. وهي من القصائد التي يكثر فيها الشاعر من الشكوى والتذمر من طباع الناس وتقلب أهوائهم. في هذه القصيدة من الهجاء، للناس، لا للممدوح، ما يكفي للإفصاح عن أن لحظة المتنبي حينذاك كانت لحظة مأزومة ومشحونة بالشعور بالظلم والحيف.

هجاؤه في هذه القصيدة هو هجاء متشكٍّ مبتئس، لا هجاء ناقم، يتخلى المتنبي بهذه القصيدة عن الجبروت، أو ادعائه، وهو يشكو، لكنه لا ينأى كثيرا عن احتقار من يشكو منهم. يقول في واحد من أبيات هذه النونية: حولي بكلِّ مكانٍ منهُمُ خِلَقٌ/ تُخطي إذا جئتَ في استفهامِها بِمَنِ.

وهو تعبير يحيل هؤلاء القوم إلى بهائم غير عاقلة، لا يجوز الاستفهام عنها بـ (مَن)، وإنما بـ (ما)، بموجب ما قالت به العرب. وفي الغالب لا يتردّد الشعراء عن مثل هذه النعوت كلما كانوا بصدد التبرّم من حال الناس، فقد ذهب أبو تمام إلى ما هو أشد وضوحاً من هذه القسوة الشعرية التي عبّر بها المتنبي، أبو تمام يقول: لا يدْهَمَنَّك من دهمائِهِم عددٌ/ فإنّ جُلَّهم بل كلَّهُم بَقَرُ.

لا يوحي جوُّ قصيدة المتنبي النونية بتلك القوة التي ظل حريصاً على الإفصاح عنها في معظم الحالات التي كان يبدي فيها من الشجاعة أكثر مما يبديه من شكوى. بعد قليل سنقف عند بيت موحٍ بلحظة ضعف كان فيها المتنبي وهو يتذمر، سنختم المقال بذلك البيت.

وهذه الأبيات الثلاثة التي اخترناها من القصيدة هي في هذا المناخ المتشكي والمتذمر. ليس الشاعر في هذه القصيدة بمعرض (التهديد) بقوة غير قوة الشعر التي يستخدمها ببراعة في شكواه الهاجية.

الأبيات تعد، بل تتمنى، أن تتاح للشاعر فرصة العيش بحيث يصفّي حسابه مع من لا يستحق المدح من ممدوحيه، إنما شعرياً، بالقصائد، بخلاف ما ذهبت إليه الشروح المختلفة.

مدحتُ قوماً، وإن عشنا نظَمتُ لَهُم/ قصائداً من إناثِ الخيلِ والحُصُنِ. التعبير هنا شعري، والقصائد التي يعد بها لـ (تصفية الحساب) هي الموصوفة والمعبّر عنها كقوة في المواجهة المحكومة بـ (لو عشنا). بلاغة التعبير الشعري تريد تأكيد قوة القصائد وشدة وطأتها على من يعد الشاعر بهجائهم، إنها قصائد صاخبة بحوافر خيولها (القوافي حسب كناية ابن الأعرابي السالفة)، بحيث (إذا تُنوشِدنَ لم يدخُلنَ في أُذُنِ).

تجب الإشارة هنا إلى أن هذه القصيدة قيلت قبل تورّط المتنبي بالاضطرار على مدح كافور، ومديحه كافور هو من أسوأ ما يمكن أن يندم عليه المتنبي، وما يمكن أن يوجب عليه الانتقام والثأر منه، وقد ثأر فعلاً لنفسه وشعره إنما بالشعر أيضاً.

بالتأكيد لم يكن المتنبي بصدد الندم على مدحه سيف الدولة، فمن بقي دون هذين الاثنين، كافور وسيف الدولة، من يستحق تجييش الجيوش ضده تكفيراً عما قاله من مدح غير مستَحَق؟

في السيرة الشعرية للمتنبي يتأكد ما ذهبنا إليه هنا من رأي يخالف الشروح المختلفة حين لم يتردد المتنبي في كتابة أقسى هجائياته ضد كافور. فما أن نأى عن كافور وتحرر من سلطته حتى اطمأن وحتى (جيّش) ضدّه القصائد التي تعد في طليعة أهاجي الشعر العربي. هذه الأبيات المختارة هنا، بموجب تصورنا عنها وبخلاف ما ذهب إليه الشراح، تجد مصداقها في هذه الهجائيات.

كان المعري يكاد يقترب من هذا المعنى الذي نذهب إليه، حينما قال: "فلو عشت نظمت لهم قصائد من الخيل"، لكن الخيال يضيق عن مثل هذا التعبير الذي تكون فيه القصائد خيولاً وجيشاً، فذهب إلى ما هو أيسر؛ أن توصف الجيوش بالقصائد.

***

في سياق هذه النونية التي مدح المتنبي بها الخصيبي يرد بيت شعري ذو دلالة مهمة في التعبير عن مشكلة المتنبي مع خصومه، إنه البيت الذي وعدنا قبل قليل بأن نختم به: يستَخبِرونَ فلا أُعطيهِمُ خَبَري/ وما يطيشُ لهُم سَهمٌ من الظِنَنِ.

إنه من الأبيات النادرة في التعبير بوضوح عن محنة المتنبي. يمكن بموجب هذا البيت تخيّل ما يعتمل من ألم في أعماق الشاعر وهو (يتوارى) عن الآخرين بسرٍّ ما.

مرة أخرى يخطئ بعض الشراح في تفسير هذا البيت. يذهب الواحدي والعكبري في شرحيهما إلى تبسيط هذه المحنة ووقفها عند الصفة الشعرية للمتنبي. يقول الواحدي شارحاً البيت:

"يسألونني عن خبري فلا أخبرهم ولا يُخْطي سهم ظنّهم أنّي أنا المتنبّي الذي سمعوا ذكره لكنّي أكتم خبري عنهم خوفاً من غائلتهم"، ويكاد العكبري يكرر هذا الشرح: "هم يستخبرون عن خبري، وأنا أكتمهم أمري، وهم لا تخطئ ظنونهم بأني المتنبي الذي سمعوا به، ولكني أكتم خبري منهم، خوفاً من غائلتهم". وهذا شرح قاصر يكتفي بسطح التعبير، ولم يقع فيه رجل نبيه كالمعري الذي لمّح ولم يصرّح وهو يقول: "كنت أستر عنهم أمري، وما كانوا يظنون بي يُطلعهم على حقيقة حالي".

لقد بقيت حياة الشاعر، وفكره، يلفهما غموض عميق. الحياة القصيرة للشاعر ساعدت في تعميق ذلك الغموض. وكان غموضا يدرأه الشاعر بالشعر حيناً، ويعبر به عنه أحياناً.

هذا البيت مما يؤكد خشيته وتحسّبه وتذمره في الشكوى الهاجية التي طغت على نونية المديح، فكانت أهم من الثناء فيها، بحيث لا يضارع الشكوى فيها سوى الألم، يقول مطلع القصيدة: أفاضِلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزمنِ/ يخلو منَ الهمِّ أخلاهُم منَ الفِطَنِ.

المساهمون