ثقب "أوزون" الوجدان

11 مارس 2015
كانت ثورة عظيمة، وما زالت (Getty)
+ الخط -

قالَ رجل المخابرات السورية لأبي، خريج سجن أبي غريب، بعد أن نظر في عينيه وتفرّس بهما، بلهجةِ أهل الدير: "هذا (العجي)، إذا كنت أمضيتَ ست سنوات في الحبس، فهو سيقضي معظمَ عمره فيه"، تمَّ هذا بعد خمس سنوات من حركة (تصحيح) القائد ذي الرأس المربّع، وقال رئيسُ فرعِ الأمنِ السياسي في العام (2011)، لأخي الذي يشغلُ مكانا في ذلك الفرع: " لو كان أمر أخيك بيدي، لأعدمته في ساحة عامة، ودعوتُ الناس للتبول عليه"، وقال جاري: " انتبه"، فانتبهتُ: " يا جار هذا (البيك آب) أمام بيتك، لمراقبة حركتك" وأضافَ بخجلٍ:" حانقون عليك كثيرا، وقال عنك رئيس الدورية: نراقب ابن .... هذا وأشار بيديه إلى البيت". ولمْ تصب تنبؤاتهم، لا رجل المخابرات الديري، ولا رئيسا الفرع والدورية. فما زلتُ أتنعّمُ في جحيمِ الحنين، وأتمتعُ بصحةٍ جيدة.

أنا أحدُ حاملي لواء (اليوتوبيا). التفكير بالتغيير وفي حدهِ الأدنى، ما كانَ يوتوبيا فحسب، إنما مغامرة تشبه المرور من فوق مثلث برمودا، أو التعرض للشمس في المكان الذي يرقُّ فيه الغلاف الجوي ويتسع ثقب الأوزون، أو القفز من قمة إيفرست بلا مظلة، فخمسةُ عقود نارية وعصا الدولة الأمنيةِ تنهال على رأس السوريين ورأسي، كانت كافية لأن تشوش فكري وتحول النظر وتخرّبَ المشي، لأبدوَ كطائرٍ خُرّبَ مخيخه أو كمصاب بالتهاب مزمن في الأذن الوسطى، حملتُ هذا الجنّف، وسرتُ سكراناً أبحثُ عن الشوارعِ التي يزدحمُ فيها الناس، ويخرجون عن أنفسهم على أنفسهم في تواطؤ شديد للغاية، إذ إنَّ حسّاً داخلياً كانَ ينهض بأعبائي، فأسلمه الراية، لطالما كنت فرداً في القطيع، يأخذني إلى الحتوف، أو إلى بعض النجاة من هوان شكلَّ ذاكرتي ووعيي ووسَمَ عقلي ومؤخرتي، حتى إذا قال أحد ما بمراكمة ثقافية قلتُ: "موخرة ثقافية" كنت باختصار مطعوناً/ مطعونين في شرفنا، المعادل الموضوعي للأحلام والكرامة، أكثر مما كنا منتهكين في أجسادنا، وجدنا أنفسنا أخيرا، فخرجنا بها.

خطأي الوحيد أني نظرت للحرية بطهرانية مفرطة، وإن سمعتُ كلاما يسوؤها، تنتفخ أوداجي وتحمّرُ، وأضممُ يديَّ لأضربَ من يجادل في أمر، أحسبه مقدساً وأمراً مفعولا، لذلك كرهت أصحاب الخط الثالث وأصحاب السؤال العقيم: "ما البديل؟"، وكرهت مدعي البطولات، إذ حدث (أحدهم) بينما كنا نتنشقُ الغاز المسيل للدموع، يقفُ بسيارته وبنظارة سوداء عاتمة، يرقب المشهد عن بعد، فإذا ما جاء الليل والتقينا، قالَ: "يا شباب، ليس هناك ماهو أجمل من أن تكون في المظاهرة ولا تعلم في أي لحظة تقنص أو تعتقل"، و(آخر) ذهبَ في رحلة من القامشلي إلى دمشق، بقي في جرمانا 18 يوماً، يشرب عرقا في الليل وينام في النهار، وسرى أنه معتقل، عندما عاد، اجتمعنا لنحتفل به، وتعشينا (أطايب الطعام) على شرف (فكِّ أسر البطل) من الفرع 518، تبين بعد أن الرقم فضائي ولا ينتمي إلى سجلات المخابرات. كانَ هذا المقدس في علاقتي مع الحرية مجلبة للتعب والخلاف، لا الاختلافِ مع الآخرين.

الأطفال الذين خطوا بالطلاء على جدران درعا، لم يتم استيرادهم، لم يكونوا تونسيين أو مصريين، كانوا أبناءنا، ترجموا ما قلناه بألسنة مشوية على الجدران، قرأوا أحاسيسنا كمنشورات سرية، وبنوا عليها ما بنوا، حلموا بمستقبل رأوه في أحلامهم، وبزوال لعصا الطاغية، وبانهيار (الحيطان ذات الآذان)، ولم يكونوا إرهابيين أو أولاد زنى، ليستبدلوا بآخرين. البلد كله عش دبابير، وما أن فُتحت فتحة صغيرة، خرج السوري نحو حياته الجديدة إلى أن بعثَ العالم، عرباً وغرباً ومنتهزي فرص، وحوشاً كثيرة تلتهمُ الدبابير العادلة، المندفعةَ خارجا، لتلسع من لسعها كل هذي السنين.

من اللاعدل القول: ذو شجون ما يحدثُ، الأصح: هو الشجون بذاته، وكفرد خبرتُ هذه المعمعة، لا وقت لدي لادعاء البطولة، فثقب الأوزون في داخلي اتسعَ كثيرا، حتى عندما ركضت من قريتي الصغيرة، على الحدود العراقية، المنهوبة من قوتين غير عادلتين، صوب كولن الألمانية وضواحيها، وتركتُ من تركتُ، لم ألتفت خلفي، ليس خوفا من (درك) يتبعني، إنما لئلا تلتقي عيني بعين الأهل، فيلمحوا الجبان المستقر في نفسي، فيوهنوا.

كانت ثورة عظيمة، وما زالت، لكن وجدان العالم غربال!


(سورية)

المساهمون