15 نوفمبر 2024
تَفْكيكُ المنطقة العربية ومكوناتها
واحدة من الملاحظات المهمة التي لم تحظَ بعدُ بالاهتمام الكافي في التحليل والتَدَبُّرِ تتمثل، فيما يبدو، أنه تفكيك ممنهج تتعرّض له المنطقة العربية ومكوناتها، خصوصاً جناحها الشرقيّ. ولا يقتصر التفكيك المقصود هنا على المعنى الجغرافي، كما في السودان سابقاً، والمحاولات اليوم في العراق وسورية وليبيا واليمن. كما أنها لا تتوقف عند حدود التفكيك الديني، كما بين المسلمين والمسيحيين، ولا المذهبي، كما بين السُنَّةِ والشيعة، أو العرقيّ، كما بين العرب والأكراد. بل إنها أعمق غوراً وأوسع نطاقاً، إلى حد يمكن الزعم فيه إن ما يجري في المنطقة إنما هو إعادة تشكيل كليٍّ لها، وعلى كلِّ المستويات، جغرافياً ومذهبياً وعرقياً وَتَكَتُلاتيّاً، وكذلك ثقافياً ووعياً بالذات ودورها ومكانتها إقليمياً وعالمياً. وعلى الرغم من أن ثمَّةَ قوى محلية تمارس دوراً محورياً في عمليات فَتْقِ عرى المنطقة، غير أنها ليست بالضرورة لاعباً وحيداً، بل إنها هي نفسها قد تكون موضوعاً مفعولاً به، وساحة لعب.
إذا ما تحدثنا على المستوى الإقليمي نرى، بشكل لا تخطئه عينٌ، عمليات التفكيك والتمزيق التي تشهدها المنطقة. ثمَّة محور السعودية مقابل محور إيران. وهناك محور السعودية- مصر- الإمارات ضد تركيا. أبعد من ذلك، لا تنحصر لعبة التفكيك في العلاقات الإقليمية العربية- غير العربية، بل إنها تشمل، أيضاً، العلاقات العربية- العربية. وما حصار قطر ومحاولة إخضاعها وإرغامها على التنازل عن سيادتها ومصالحها ومواقفها لصالح محور الرياض- أبوظبي- القاهرة، مضافاً إليهم البحرين، إلا نموذجٌ على ذلك. وفي صيرورة محاولة السَطْوِ على قطر، تمارس دول الحصار دور المِبْضَعِ في الجسد العربي، وذلك لفرز دول الـ "مَعِ" في مقابل دول الـ"ضِدِّ".
الأخطر من ذلك أن محاولات التفكيك التي تشهدها المنطقة، ويشارك فيها بعض العرب، واعينَ أو غير واعينَ، تصبُّ في مصلحة إسرائيلية- أميركية، تحت إدارة دونالد ترامب، أساسها ما
يسمى "الحلُّ الإقليمي" للصراع العربي- الإٍسرائيلي، والذي تحول في أدبيات عربية رسمية كثيرة إلى صراع فلسطيني- إسرائيلي. المشكلة هنا أن "الحلَّ الإقليمي" لا يستبطن تنازلاً عربياً عن غالب الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وتصدير مشكلة السكان الفلسطينيين وطموحاتهم الموؤودة إلى العرب فحسب، بل إنَّ "الحل الإقليمي" يُطَبِّعُ المركزية الإسرائيلية في المنطقة، ويجعل منها قاطرةً، في حين يصبح المُجْمَلُ العربي، خصوصاً الشرقي منه، مقطورة. وليس خافياً على أحد أن منطق التفكيك هنا لصالح إسرائيل إنما يروم، في ذهن بعض صانعي قرار بعض الدول العربية، تشكيل محور، تكون تل أبيب قطب رحاه، في مواجهة محور إيران أولاً، وتركيا، باعتبارها قوة إقليمية، ثانياً، و"الإسلام السياسي"، وحلفائه ثالثاً. بل قل، إن هذا المحور المنشود إنما يستهدف طموحات الشعوب العربية بالكرامة والحرية والاستقلال. بمعنى آخر، ينطلق المتواطئون من العرب في عملية تفكيك المنطقة من قناعة مفادها بأن العرب عاجزون عن بناء تحالفٍ بقدراتهم الذاتية للتصدّي لما يتصورونه أخطاراً خارجية. وفي هذا السياق، يندرج تفكيك منظومة مجلس التعاون الخليجي عملياً. كما أن هؤلاء المتواطئين من العرب باتوا على يقين بأن أحد أهم وسائل تثبيت كراسيهم وعروشهم يمر عبر بوابة إسرائيل إلى الولايات المتحدة.
ولكن، وكما سبقت الإشارة، لا تقتصر عملية التفكيك التي تتعرّض لها المنطقة العربية على العلاقات البَيْنِيَةِ مع القوى الإقليمية الأخرى، ولا حتى ما بين الدول العربية على المستوى الرسمي، بل إنها أعمق من ذلك بكثير. لاحظ هنا تصاعد موجة العداء الشعبي العربي المشترك التي استفزتها الأزمة الخليجية، نتيجة نفخ محور الحصار في كِيرِ الكراهية ونبش الأحقاد. إذا كان المجتمع الخليجي العربي، المتجانس إلى حَدٍّ جيد، مذهبياً وثقافياً وقبلياً، قابلاً للاختراق بهذا الشكل، فكيف يكون الحال على مستوى الإقليم، دينياً ومذهبياً وعرقياً؟ الأدهى أن التفكيك المرسوم هنا يذهب إلى أبعد من ذلك، فحتى المجتمع الواحد يجري تفكيكه، ليس جهوياً فحسب، كما ليبيا، بل على أساس الموقف السياسي والفكري، كما مصر. ألا يتغنى بعضهم في مصر بـ"إحنا شعب وإنتو شعب"، بناء على الموقف من الانقلاب العسكري عام 2013!؟ الأمر نفسه يعيشه العراق ما بين مكوناته الدينية والمذهبية والعرقية المختلفة، بل وما بين مكوناته السياسية المتبايِنَةِ، كالخلافات داخل البيت الشيعي. والأمر نفسه تجده اليوم في سورية التي تمزقت هويتها الوطنية الجامعة وتفكّكت، واليمن كذلك ليس بعيداً عن تلك المعادلات، ولا حتى لبنان.
ولا تتوقف مقاربة التفكيك في المنطقة العربية عند ذلك الحدِّ الكارثي، بل إنها تمضي إلى أبعد من ذلك، لتشمل حتى مكونات المنطقة وثقافتها. ما عاد الإسلام جامعاً للمنطقة في الخطاب
الرسمي، ولا حتى العروبة أو القومية. لقد تم استبدال هويتين جامعتين بهويات فرعية شوفينية، أساسها الولاء لخط السلطة الحاكمة، لا الوطن نفسه ولا مصالحه. أيضاً، طاولت صيرورة التفكيك التيارات التي تمثل نقاط قوة في المنطقة، وتشكل إحدى بنى توازناتها، اتفقنا معها أم اختلفنا. من ذلك ما نراه اليوم من تَفَكُّكِ جماعة الإخوان المسلمين وتفكيكها، كما في مصر، تحت وطأة القمع، أو في الأردن تحت عمليات الفتق والرتق الحكومية. يُمارس الأمر نفسه في المغرب مع حزب العدالة والتنمية، عبر لعبة ذكيةٍ أوجدت تيارين متنافسين داخل الحزب الحاكم نظرياً، وذلك بعد إفشال رئيس الوزراء السابق، وزعيم الحزب، عبد الإله بنكيران، في مسعاه إلى تشكيل حكومة ائتلافية، وتقديم زميله في الحزب، والقيادي فيه، سعد الدين العثماني، رئيس الحكومة الحالي. كما أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) نفسها ليست بعيدة اليوم عن منطق التفكيك وإعادة التشكيل، عبر محاولة حصر تركيزها في قطاع غزة وهمومه، ومحاولة عزلها عن امتداداتها الخارجية وتحالفاتها الإقليمية، بل وعن مجمل الوضع الفلسطيني. ومع أن ذلك ليس قدراً على "حماس"، ولكن على شرط أن تتنبه إلى ملامح السيناريو المرسوم.
باختصار، تستهدف عمليات التفكيك التي تشهدها المنطقة، والتي مثّل غزو العراق عام 2003، نقطة انطلاقها الأساسية، إعادة تشكيل منطقة من دون هوية جامعة، ومن دون وعي جمعيّ بالذات، ومن دون إمكانية لنهوض حضاري مستقبلي. إنها محاولات تستهدف المناعة الذاتية للجسد العربي، بتواطؤ من بعض العرب، الضحايا المستهدفين أنفسهم، ليسهل بعد ذلك حقنه بكل الفايروسات القاتلة.
إذا ما تحدثنا على المستوى الإقليمي نرى، بشكل لا تخطئه عينٌ، عمليات التفكيك والتمزيق التي تشهدها المنطقة. ثمَّة محور السعودية مقابل محور إيران. وهناك محور السعودية- مصر- الإمارات ضد تركيا. أبعد من ذلك، لا تنحصر لعبة التفكيك في العلاقات الإقليمية العربية- غير العربية، بل إنها تشمل، أيضاً، العلاقات العربية- العربية. وما حصار قطر ومحاولة إخضاعها وإرغامها على التنازل عن سيادتها ومصالحها ومواقفها لصالح محور الرياض- أبوظبي- القاهرة، مضافاً إليهم البحرين، إلا نموذجٌ على ذلك. وفي صيرورة محاولة السَطْوِ على قطر، تمارس دول الحصار دور المِبْضَعِ في الجسد العربي، وذلك لفرز دول الـ "مَعِ" في مقابل دول الـ"ضِدِّ".
الأخطر من ذلك أن محاولات التفكيك التي تشهدها المنطقة، ويشارك فيها بعض العرب، واعينَ أو غير واعينَ، تصبُّ في مصلحة إسرائيلية- أميركية، تحت إدارة دونالد ترامب، أساسها ما
ولكن، وكما سبقت الإشارة، لا تقتصر عملية التفكيك التي تتعرّض لها المنطقة العربية على العلاقات البَيْنِيَةِ مع القوى الإقليمية الأخرى، ولا حتى ما بين الدول العربية على المستوى الرسمي، بل إنها أعمق من ذلك بكثير. لاحظ هنا تصاعد موجة العداء الشعبي العربي المشترك التي استفزتها الأزمة الخليجية، نتيجة نفخ محور الحصار في كِيرِ الكراهية ونبش الأحقاد. إذا كان المجتمع الخليجي العربي، المتجانس إلى حَدٍّ جيد، مذهبياً وثقافياً وقبلياً، قابلاً للاختراق بهذا الشكل، فكيف يكون الحال على مستوى الإقليم، دينياً ومذهبياً وعرقياً؟ الأدهى أن التفكيك المرسوم هنا يذهب إلى أبعد من ذلك، فحتى المجتمع الواحد يجري تفكيكه، ليس جهوياً فحسب، كما ليبيا، بل على أساس الموقف السياسي والفكري، كما مصر. ألا يتغنى بعضهم في مصر بـ"إحنا شعب وإنتو شعب"، بناء على الموقف من الانقلاب العسكري عام 2013!؟ الأمر نفسه يعيشه العراق ما بين مكوناته الدينية والمذهبية والعرقية المختلفة، بل وما بين مكوناته السياسية المتبايِنَةِ، كالخلافات داخل البيت الشيعي. والأمر نفسه تجده اليوم في سورية التي تمزقت هويتها الوطنية الجامعة وتفكّكت، واليمن كذلك ليس بعيداً عن تلك المعادلات، ولا حتى لبنان.
ولا تتوقف مقاربة التفكيك في المنطقة العربية عند ذلك الحدِّ الكارثي، بل إنها تمضي إلى أبعد من ذلك، لتشمل حتى مكونات المنطقة وثقافتها. ما عاد الإسلام جامعاً للمنطقة في الخطاب
باختصار، تستهدف عمليات التفكيك التي تشهدها المنطقة، والتي مثّل غزو العراق عام 2003، نقطة انطلاقها الأساسية، إعادة تشكيل منطقة من دون هوية جامعة، ومن دون وعي جمعيّ بالذات، ومن دون إمكانية لنهوض حضاري مستقبلي. إنها محاولات تستهدف المناعة الذاتية للجسد العربي، بتواطؤ من بعض العرب، الضحايا المستهدفين أنفسهم، ليسهل بعد ذلك حقنه بكل الفايروسات القاتلة.