دفعت الأحداث التونسية الداخلية المتلاحقة من أمنية واجتماعية واقتصادية، إضافة إلى المخاوف من تطورات الأوضاع في الإقليم، الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، إلى تعديل أولوياته عما كانت عليه خلال عامه الأول من توليه رئاسة الجمهورية التونسية. فالسنة الثانية من حكم السبسي، تتسم منذ انطلاقتها بالكثير من التعقيد وتواتر مؤشرات عدم الاستقرار، وهو ما يفسّر الواقعية الشديدة التي أصبحت طاغية على الخطاب الرسمي، بعد طفرة الوعود والثقة العالية في قدرة الفريق الحاكم الجديد على تحسين أوضاع التونسيين.
ولعل أهم ما طرأ على وضعية السبسي، القرار الذي اتخذه بالابتعاد عن حزب "نداء تونس" الذي أسّسه ودعمه بقوة، وذلك بعد إصابته بسلسلة من الخيبات والانتقادات الحادة، مع الانقسام الذي ضرب الحزب وخروج عدد من قياديه، أبرزهم أمينه العام السابق محسن مرزوق، وتوجّههم إلى تأسيس حزب جديد، إضافة إلى انشقاق عدد من نواب "النداء" عن كتلته البرلمانية، ما جعل الحزب يفقد أكثريتة النيابية في البرلمان.
ولكن لا يمكن القول إن مصير الحزب لم يعد يهم السبسي ويشغل باله، إلا أن الرئيس التونسي بدا أنه مقتنع بأن إنقاذ "نداء تونس" من الانقسام والتحلّل لم يعد ممكناً، وأن الخلافات التي قسّمته لا تزال تفعل فعلها داخل كل جناح. وبناءً عليه أصبح السبسي أكثر حرصاً على تقديم مصلحة الدولة والمجتمع على مصلحة الحزب.
اقرأ أيضاً: سياسيون تونسيون يحذرون من التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا
وإزاء التطورات التي شهدتها تونس والمنطقة، باتت أولويات الرئيس التونسي، محددة في ثلاثة أهداف رئيسية، فرضها حصاد السنة الأولى من الحكم وأملَتها التحوّلات الحاصلة إقليمياً ودولياً. تتعلق الأولوية الأولى بضرورة انفتاح رئيس الدولة على مختلف القوى السياسية التونسية وكبرى فعاليات المجتمع المدني. فهناك حاجة ملحّة في تونس لإعادة بناء أرضية سياسية تساعد على تعميق الوحدة الوطنية لمواجهة التحديات التي تعترض التونسيين في هذه المرحلة الانتقالية المعقدة. وعلى الرغم من الأزمة المفتوحة التي فجّرتها تصريحات السبسي في البحرين بينه وبين "الجبهة الشعبية" اليسارية، إلا أن رئيس الدولة بدا حريصاً على احتوائها بشكل سريع عن طريق توسيع الاستشارات التي يجريها منذ أيام سواء مع الأحزاب أو الشخصيات المستقلة.
الأولوية الثانية اقتصادية بالأساس، إذ لم تعد الدولة التونسية تحتمل استمرار انخفاض نسبة النمو بشكل متسارع، ما جعلها تقترب من الصفر مع نهاية العام الماضي. كما أن السبسي شعر بالعجز وهو يرى الشباب العاطل من العمل ينزل من جديد إلى الشارع للاحتجاج والمطالبة مرة أخرى بحقه في العمل بعد خمس سنوات من الثورة. هذه الاحتجاجات تجسّدت بشكل واضح في شوارع المناطق الفقيرة، كالقصرين، التي تضم أعداداً كبيرة من الشباب العاطل من العمل، والتي بدت وعود الحكومة لهم بتوفير فرص العمل، مهدئات وقتية، قد لا تنجح في تهدئة غضب الشباب العاطل من العمل لوقت طويل. ولم يقف الأمر عند الاحتجاجات بل حاولت شبكات التهريب إلى الخلايا المسلحة استثمار ذلك لتحقيق مآرب مختلفة من بينها زعزعة الأمن القومي.
وكثّف السبسي خلال الأيام الماضية، من لقاءاته بخبراء اقتصاديين من مختلف الأجيال والتجارب، بمن فيهم أولئك الذين تحمّلوا مسؤوليات في العهود الماضية، ليستمع إلى وجهات نظرهم حول تشخيص الحالة الاقتصادية والحلول التي يرونها لإنقاذ الوضع الاقتصادي والاجتماعي من الانهيار والفوضى.
أخيراً لا يخفي الرئيس التونسي قلقه الشديد من التداعيات المُحتملة للضربات العسكرية الدولية، التي يُتوقّع أن تُوجهها دول أوروبية وغربية إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في ليبيا، على الأمن القومي التونسي، إذ يزداد توجّه المواطنين الليبيين نحو الأراضي التونسية خوفاً من مضاعفات الحرب، كما تخشى الجهات الأمنية التونسية من احتمال محاولة التسلل بكثافة عبر الحدود المشتركة أثناء اندلاع الحرب في أراضي جارتها.
وستكون الأسابيع المقبلة مهمة ودقيقة بالنسبة للسبسي ولتونس، فما حدث في كل من العراق وسورية بعد التدخّل الغربي في هذين البلدين للحد من تضخم تنظيم "داعش"، من شأنه أن يجعل الأوساط السياسية والأمنية في تونس تحبس أنفاسها عند الشروع في تنفيذ العمليات العسكرية داخل ليبيا وعلى مسافات قريبة من التراب التونسي.
اقرأ أيضاً: تونس: شبح الاغتيالات يعود من جديد..والغنوشي ضمن قائمة المستهدفين