تونس: ما وراء الهجوم على سعيّد في الملف الليبي؟

27 ديسمبر 2019
تصدرت ليبيا أجندة اللقاء بين سعيّد وأردوغان (مراد سيتينموهوردار/الأناضول)
+ الخط -

عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بلاده، بعد زيارةٍ مفاجئة أجراها إلى تونس، يوم الأربعاء الماضي، تاركاً وراءه الرئيس التونسي قيس سعيّد يواجه عاصفة من الردود والتأويلات التي شنّتها أطراف معادية للسياسة التركية تجاه ليبيا، وفي الشرق الأوسط عموماً. وعلى الرغم من تواتر التأكيدات من رئاسة الجمهورية التونسية المتعلقة بنفي ما قيل حول دخول تونس في حلف تقوده أنقرة لمساندة حكومة الوفاق الليبية ورئيسها فائز السراج، إلا أن ذلك لم يشفع للرئيس التونسي، إذ واصلت بعض الأحزاب وغالبية وسائل الإعلام المحلية حملتها ضده، ولم تتخلَ عن شكوكها وإشاراتها إلى احتمال وجود "اتفاق سري" مع أردوغان، واتهام سعيّد بـ"الخروج عن ثوابت الدبلوماسية التونسية".

ومنذ توليه رئاسة الدولة بأغلبيةٍ شعبية استثنائية، واجه سعيّد ولا يزال تياراً مناهضاً له من قبل جزءٍ هام من أوساط النخب المحلية. هذه النخب لم تقتنع بأن الشعب التونسي قد أحسن الاختيار، وإذ لا تشكك في استقامة الرجل ونظافته، لكنها لا ترى فيه الرئيس المناسب للبلاد في هذا الظرف الدقيق الذي تمر به. ومارست هذه الأوساط أسلوب التربص والقنص، إذ كلما تحرك الرجل في هذا الاتجاه أو ذاك، تعرض للتشكيك والقصف، حتى بدا وكأنه محاصرٌ ومهددٌ إعلامياً ورمزياً في مكانته ودوره.

وتُعتبر الدبلوماسية من صلاحيات الرئيس التونسي، بحسب دستور العام 2014. ونظراً لافتقار سعيّد لأي تجربة له في هذا المجال، فقد ركزت الأطراف المعادية له على هذا الجانب، لمحاولة إضعافه وإرباكه: سعت إلى ذلك بعد فوزه مباشرة، عندما أصّر على أن يكون العلم الفلسطيني إلى جانب العلم التونسي أثناء إلقائه كلمة الانتصار، ثم رصدت كيفية تعامله مع الجزائر ولومها الشديد على عدم زيارته لها، سواء قبل الانتخابات الرئاسية أو بعدها، أو عندما توفي قائد الجيش الجزائري أحمد قايد صالح. وما إن حلّ أردوغان بتونس، حتى وجدت في ذلك "فرصة ذهبية" لتشغيل المدفعية الثقيلة ضد سعيّد.

بالنسبة لأردوغان، من الصعب أن تكون محايداً في العلاقة به، فالسائد منذ سنوات أن يكون الساسة وقادة الرأي إما معه أو ضده، وهو غيّر منذ صعوده إلى السلطة أموراً كثيرة داخل تركيا، وأيضاً في محيطها الحيوي. له أهدافٌ واضحة يعمل على الوصول إليها على الرغم من العوائق والتحديات. لهذا عندما توجّه نحو تونس، كان يعرف ما يريد، على الرغم من علمه بأن الأوضاع السياسية في هذا البلد لم تستقر، وهي في انتظار تشكيل الحكومة الجديدة. كانت على أجندته مسألتان: الملف الليبي الذي يتصدر مشاغله حالياً، ودعم العلاقات الثنائية، خصوصاً على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، على الرغم من كونه يدرك أنه من الصعب الاتفاق على مشاريع محددة، مثل بناء مستشفى للأطفال، وشراء كمية من زيت الزيتون، مثلاً، في غياب الحكومة الجديدة.


وفيما يبدو الرئيس التركي مستعداً للتدخل عسكرياً في ليبيا لمنع سقوط العاصمة طرابلس في أيدي اللواء المتقاعد خليفة حفتر وحلفائه، إلا أن هذه المسألة تعتبر حساسة جداً داخل تونس، المتخوفة من اتساع رقعة الحرب في المناطق الواقعة على حدودها. فذلك من شأنه أن يدفع بعشرات الآلاف من المدنيين إلى النزوح نحو الأراضي التونسية، وقد يفتح الباب أمام تسرب عناصر إرهابية متربصة. لهذا تتمسك تونس بالحل السياسي، وترفض علناً تدويل الأزمة الليبية، وتعترض بشكل حاسم على استعمال أراضيها في أي عملٍ عسكري يستهدف جارتها الشرقية.

لم تغير الرئاسة التونسية الحالية أي بند من بنود الدبلوماسية التونسية الخاصة بالملف الليبي، ولا تنوي القيام بذلك مهما تطورت الأحداث نحو الأسوأ، وهو ما أكده بوضوح قيس سعيّد. لهذا يستبعد حصول أي اتفاق سرّي يسمح لأنقرة بخرق الأجواء التونسية أو استخدام الأراضي التونسية في أي حرب محتملة. كما تنفي الجهات الرسمية قبول تونس أي تعاون استخباري مع تركيا، الغرض منه دعم السراج والجماعات المسلحة في طرابلس.

ويتعلق الخلاف القائم في تونس أساساً حول ليبيا بمسألة الاعتراف بالسراج وحكومة الوفاق. هذا الموقف ثابت منذ مرحلة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، ويستند إلى الشرعية الدولية. فلا توجد دولة رفضت الاعتراف بالسراج علناً، حتى وإن ساندت حفتر عملياً. مع ذلك، تمارس أحزاب تونسية عدة ضغوطاً من أجل الدفع نحو الاعتراف ضمنياً على الأقل بحفتر، كونه يسيطر على 80 في المائة من الأراضي الليبية، وأنه الشخص الأقوى الذي يتجه نحو تحقيق الانتصار النهائي. ويلوحون بما قد تخسره تونس اقتصادياً لو حُسمت المعركة لصالح الشرق الليبي، خصوصاً بالنسبة لعملية إعادة الإعمار. ويرون أن الانحياز دبلوماسياً لحكومة السراج من شأنه أن يعرض البلاد مستقبلاً لمأزق سياسي واقتصادي وأمني خطير، لكنهم في الوقت نفسه يغضون الطرف عن وجود قوى أجنبية أخرى تقاتل إلى جانب حفتر تحمل جنسيات روسية أو سودانية.

الخلاف الدائر حالياً حول الموضوع الليبي في تونس، له علاقة مباشرة بالصراع السياسي بين حركة "النهضة" وخصومها في الداخل والخارج. فـ"النهضة" لا تخفي مساندتها الكاملة لحكومة الوفاق الليبية لاعتبارات سياسية وأيديولوجية، وهو ما زاد من توسيع دائرة الخلاف مع خصومها المحليين، وجعلها تساند رئيس الجمهورية في الهجوم المضاد الذي يتعرض له حالياً.