أخيراً وُلدت حكومة هشام المشيشي في تونس، وتم الإعلان عنها في اللحظات الأخيرة التي سبقت نهاية المهلة الدستورية التي استغرقت شهراً كاملاً، وهو ما جعل البعض يذهب به الظن إلى الاعتقاد بأن رئاسة الجمهورية كانت تخطط لإسقاط الحكومة من أجل الانتقال إلى حل البرلمان، وقد فتح ذلك التأخير المجال واسعاً لتأويلات شتى. وبقطع النظر عن هذه التأويلات، فالمؤكد أن هذا التأخير لم يكن في صالح رئيس الحكومة الجديد الذي قبلت به جميع الأطراف، وشهدت له بالنزاهة والتواضع وخلو سيرته من أي أمر يمكن أن يعاب عليه. لكن بدا واضحاً أنه ليس المسؤول الوحيد عن اختيار عناصر الفريق، إذ بدت لمسات القصر الرئاسي واضحة جداً، مما سمح لأحزاب كثيرة أن تسارع للقول إنها "حكومة الرئيس بامتياز".
وعلى الرغم من الاعتراضات على عدد قليل من الوزراء مثل وزير الداخلية توفيق شرف الدين، فإن المشيشي التزم بوعده، وشكّل حكومة تكنوقراط. الوحيد الذي له خلفية سياسية على الرغم من كونه مستقلاً حزبياً، هو محمد الطرابلسي الذي كان قيادياً في الاتحاد العام التونسي للشغل والذي عاد مرة أخرى إلى الوزارة نفسها التي سبق له أن أدارها في حكومة يوسف الشاهد وهي وزارة الشؤون الاجتماعية. أغلبية الوزراء الجدد مجهولون في الساحة السياسية، وكثير منهم يتعرف عليهم التونسيون لأول مرة. البعض استعمل كلمة "حكومة أشباح" للتقليل من أهمية أعضائها، لكن عدم معرفة الجمهور الواسع بالوزراء المعينين ليس عاملاً كافياً للحكم عليهم قبل اختبارهم.
كل الأحزاب تقريباً، باستثناء الحزب "الدستوري الحر"، لم تتحمس لهذه الحكومة التي رأت فيها تحدياً لها وتصغيراً من شأنها
كل الأحزاب تقريباً، باستثناء الحزب "الدستوري الحر"، لم تتحمس لهذه الحكومة التي رأت فيها تحدياً لها وتصغيراً من شأنها. من هذه الأحزاب "التيار الديمقراطي" الذي اقترب كثيراً من رئيس الجمهورية قيس سعيّد، إلا أنه لم يتردد لحظة في أن يؤكد عبر الرجل الثاني في الحزب غازي الشواشي أن "الذهاب إلى انتخابات مبكرة أفضل من المغامرة بحكومة دون هوية"، وأعلن أن حزبه لن يصوّت للحكومة. كما اعتبر القيادي في حركة "النهضة" سمير ديلو أن التونسيين يجدون أنفسهم حالياً مخيّرين "بين السيئ والأسوأ". يقصد بذلك القبول بحكومة بلا سند سياسي أو الذهاب إلى انتخابات سابقة لأوانها. حتى حركة "الشعب" القريبة من سعيّد وصاحبة الدعوة إلى ما عُرف بـ"حكومة الرئيس" أكدت من جهتها أن الديمقراطية ترتكز على الأحزاب ولا يمكن الاستغناء عنها وإلغاؤها.
على الرغم من كل هذه الانتقادات والاعتراضات التي صدرت بعد الإعلان عن قائمة الفريق الحكومي الجديد، يرجح أن تنال حكومة المشيشي الثقة. لكن ذلك لا يعني الدفاع عنها في ما بعد، إذ ستكون الحكومة عرضة للمراقبة الشديدة وعدم التساهل معها خلال الأشهر المقبلة. عندها سيعي المشيشي أهمية الأحزاب ودورها وقدرتها على مضايقته أو تيسير قيامه بمهمته.
لن تكون هناك أطراف في الحكم وأخرى في المعارضة لأن كل الأحزاب قد سُحب من تحتها البساط ووجدت نفسها خارج مؤسسات السلطة التنفيذية. الحزب الوحيد الذي أعلن بوضوح أنه سيقف إلى جانب الحكومة هو "الدستوري الحر". لم يفعل ذلك حباً في المشيشي أو تضامناً مبدئياً مع رئيس الجمهورية، وإنما بغرض العمل على عزل حركة "النهضة" والتمهيد لمزيد من تهميشها، والسعي في الأخير إلى حلها بحجة كونها "حركة إرهابية". وقد يتأخر الزمن كثيراً قبل أن تدرك الأحزاب بأن جميعها هي التي سيتم التضحية بها، وأن سعيّد يستفيد حالياً من الصراعات التي تشق هذه الأحزاب من أجل مزيد من إضعافها وتهميشها. لكن النتيجة النهائية لهذا المسار ستكون خطيرة جداً على مستقبل العملية الديمقراطية في البلاد.
التحدي الكبير سيبدأ بعد تمرير حكومة المشيشي، إذ إن المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والصحية تتعاظم
التحدي الكبير سيبدأ بعد تمرير حكومة المشيشي، إذ إن المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والصحية تتعاظم يوماً بعد يوم، ولن تستطيع الحكومة أن تواجه ذلك بمفردها. لكن في المقابل لن تستسلم الأحزاب لإرادة رئيس الجمهورية، وستعمل بطرق متعددة على عرقلته وعدم تمكينه من الانفراد بالقرار. وهو ما أكده رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي عندما أعلن رفضه انفراد الرئيس بتأويل الدستور، ومن أجل وضع حد لذلك وضعت "النهضة" في مقدمة أولوياتها بعد استئناف الدورة البرلمانية، تشكيل محكمة دستورية في أقرب الآجال، وهي مستعدة من أجل ذلك لأن تقدّم تنازلات واسعة لمنافسيها وخصومها حتى يتم تذليل مختلف الصعوبات التي حالت دون إنشاء هذه المحكمة على الرغم من التنصيص على ضرورة قيامها بعد سنة فقط من المصادقة على دستور 2014. المهم الآن من وجهة نظر "النهضة" هو توحيد الجهود من أجل منع سعيّد من استعمال فصول الدستور لمحاربة الأحزاب وفي مقدمتها "النهضة"، وأن يواصل من خلال ذلك تحقيق ما تسميه أطراف عديدة "الانقلاب الناعم" لتحويل النظام البرلماني المعدل الحالي إلى نظام رئاسي وربما رئاسوي من دون الاضطرار للمرور عبر البرلمان.