12 أكتوبر 2024
تونس في مؤشر الديمقراطية العربية
كان العنوان لافتاً، جذّاباً، مثيراً للفخر، في نهاية عام آخر صعب، وظرف تبعث كل مؤشراته على مشاعر مناقضة تماماً لمعاني الفرح و التفاؤل، فالأمن على كف عفريت، على الرغم من رسائل الطمأنة، وحتى البطولة، في نجاحاتٍ متتالية، في إحباط هجومٍ هنا، أو تفكيك خلية إرهابية هناك. والاقتصاد منتكس، من عناوينه الرئيسية انسحاب المستثمرين، وهروبهم بعيداً بأموالهم إلى حيث الدفء والاستقرار، ورهن منشآت عمومية أو بيعها، ما أحدث الصدمة تلو الأخرى. يضاف إلى هذا وذاك اللجوء الى الاقتراض من الهيئات المالية الدولية، بعد الإذعان لشروطها المجحفة، لأن "الزنقة وقفت للهارب"، وتراجع الاستهلاك بين فئات شعبٍ يعشق الاستهلاك في كل شيء وفي كل المواسم، ولو أدى به إلى الهلاك. وفي الأثناء، تثور معارك يومية طاحنة مع وزارات الاقتصاد والمالية، والتربية والتعليم، والصحة، وفضلت وزارات أخرى الظل، وعدم رفع الصوت أو جلب الانتباه، حتى لا تصيبها نيران المواطن والإعلام على السواء.
وإلى ما سبق، تشهد تونس مناورات سياسية وانشقاقات وتصدعات، وسقوط تحالفات قديمة، فيما تقوم كيانات حزبية جديدة قديمة على أنقاضها، أو تُنفَخ فيها الحياة من جديد، ولكن، بأسماء مستحدثة، وفرك للأيدي، استعدادا لاستحقاقات سياسية آتية، طمعا في نصيبٍ من كعكةٍ لا يُعلَم على وجه الدقة ماذا بقي فيها، وهل ما زال في طعمها ما يغري بالتذوق. والأهم في هذا الحراك والتجاذبات أن "التوافق" لا يزال ضابط إيقاعها الرئيسي، والدولة، بمؤسساتها المستدامة، هي سقفها الذي يحرص الجميع على أن يبقى يظللهم، من أجل سلامتهم الشخصية وسلامة الوطن والمواطن.
في الإقليم، جار جنوبي شرقي مشتعل علي مدار الساعة، يكاد ينفجر هو أيضا الى جزيئات وطن، على الرغم من محاولات الرتق واللصق. وجار آخر غربي، النار تشتعل فيه تحت الرماد، ومعه حدود جبلية خطيرة مستعصية، تكاد تصبح دولةً داخلية وبين الدولتين. وفي جنوب الجنوب، دول إفريقيا المتاخمة للصحراء، والتي يتحكم الفقر وغياب القانون في إيقاع حياة شعوبها اليومي، ويشكلان بيئة خصبة للجماعات المسلحة التي تصوغ أحداثها وتختزلها في أخبار هجمات إرهابية يسقط ضحاياها بالعشرات، تحت مسميات مختلفة، ولكن تحت راية واحدة، في مالي وتشاد والنيجر ونيجيريا والقائمة تطول.
وفي الأعلى، تئن القارة العجوز التي كانت، أمس، حلم الحالمين بالجنة الدنيوية، تحت ضربات
إرهابية موجعة، غيرت مزاجها في لمح البصر، وأخرجت إلى السطح السياسي، في غضون أسابيع قليلة، أحزابا يمينية متطرفة، كسبت أصوات التأييد وأينعت، وإنْ مؤقتاً. وأثارت علامات استفهام حول مدى قوة "اتحاد القارة" وقيم الأمن والتعايش والرفاه الاقتصادي والاجتماعي فيه.
لن نبتعد أكثر، ولو أننا نستطيع إن شئنا. ولكن، هذا هو المحيط الطبيعي والجيوـ سياسي لتونس "الأولى عربياً في مؤشر الديمقراطية"، ففي مثل هذا الواقع الداخلي والخارجي تحديداً، يصبح لهذا العنوان والتصنيف معنى، مرتبط بالزمان والمكان والظرف التاريخي الدقيق الذي تعيشه المنطقة والعالم. أليس كل شيء نسبة وتناسبا؟ أليس مخاض ما يسمى "الربيع العربي" مستمراً، بل طال وطالت آلامه بما يفوق طاقة كثيرين على الاحتمال؟ أليست المآلات متباينة، والآمال بالتغيير إيجاباً لا يزال فيها شيء ينبض، وإنْ بعسر شديد، على الرغم من الاختلاف على المنطلقات؟
عندما يتبادل أبناء الوطن الواحد توجيه نيران بنادقهم إلى صدور بعضهم بعضاً، وتنحو لغة التخاطب إلى ما يفرقهم ويمايز بينهم أكثر مما يجمعهم، وعندما تضيق بهم المساحات التي ضمتهم معا قروناً، مع ضيق صدورهم ونقصان قدرتهم على التسامح والعيش المشترك، وتصبح المفاوضات السياسية منصبّة على تقاسم الثروة ورفع الأسوار، أكثر من الإقبال بشغف وصدق على التجربة الديمقراطية والاقتراب من المواطن والاستماع إليه والانطلاق معه في إنشاء بنيان جديد.
عندما تتجمع مكونات الصورة أمامنا بهذه القتامة، يصبح لنموذج الديمقراطية الذي صاغته تونس، على طريقتها، معنى عميق، يبعث برسالة أمل بأن العرب غير الواثقين من أنفسهم أصلاً قادرون على الديمقراطية، إن أرادوا وصدقوا في إرادتهم، ورسالة قرص أذن، وتحذير بأن لا بديل عن الديمقراطية إلا بالفوضى والدماء، يطول أمدهما بقدر طول أمد التردد والمماحكة والتذاكي والأنانية.
نعم، تونس الأولى عربياً في مؤشر الديمقراطية، على الرغم من هشاشة التجربة وصعوبة الظرف داخليا. هي ليست النرويج ولا الدنمارك ولا ألمانيا، لكنها قفزت بـ36 نقطة إلى الأمام على مستوى العالم. هي في مرتبة جيدة جداً، على الرغم من تأويلات سلبية ـ سالبة للتصنيف بأنه "ذر رماد في العيون"، وتصفيقٌ لا يغير في واقع المواطن التونسي شيئاً، ولا يضيف إلى جيبه مليمات إضافية يحتاج لها بشدة. ولكن، في التجربة ما يستحق بعض التضحية، وما يستحق شعوراً بالفخر وإن خجولاً، وما يستحق أكثر من التصفيق والتهليل، يد صديقة، لا يد صَدَقة، تمتد لتساعد هذا البلد الصامد في تواضع، على الوقوف، والاعتدال في وقفته.
وإلى ما سبق، تشهد تونس مناورات سياسية وانشقاقات وتصدعات، وسقوط تحالفات قديمة، فيما تقوم كيانات حزبية جديدة قديمة على أنقاضها، أو تُنفَخ فيها الحياة من جديد، ولكن، بأسماء مستحدثة، وفرك للأيدي، استعدادا لاستحقاقات سياسية آتية، طمعا في نصيبٍ من كعكةٍ لا يُعلَم على وجه الدقة ماذا بقي فيها، وهل ما زال في طعمها ما يغري بالتذوق. والأهم في هذا الحراك والتجاذبات أن "التوافق" لا يزال ضابط إيقاعها الرئيسي، والدولة، بمؤسساتها المستدامة، هي سقفها الذي يحرص الجميع على أن يبقى يظللهم، من أجل سلامتهم الشخصية وسلامة الوطن والمواطن.
في الإقليم، جار جنوبي شرقي مشتعل علي مدار الساعة، يكاد ينفجر هو أيضا الى جزيئات وطن، على الرغم من محاولات الرتق واللصق. وجار آخر غربي، النار تشتعل فيه تحت الرماد، ومعه حدود جبلية خطيرة مستعصية، تكاد تصبح دولةً داخلية وبين الدولتين. وفي جنوب الجنوب، دول إفريقيا المتاخمة للصحراء، والتي يتحكم الفقر وغياب القانون في إيقاع حياة شعوبها اليومي، ويشكلان بيئة خصبة للجماعات المسلحة التي تصوغ أحداثها وتختزلها في أخبار هجمات إرهابية يسقط ضحاياها بالعشرات، تحت مسميات مختلفة، ولكن تحت راية واحدة، في مالي وتشاد والنيجر ونيجيريا والقائمة تطول.
وفي الأعلى، تئن القارة العجوز التي كانت، أمس، حلم الحالمين بالجنة الدنيوية، تحت ضربات
لن نبتعد أكثر، ولو أننا نستطيع إن شئنا. ولكن، هذا هو المحيط الطبيعي والجيوـ سياسي لتونس "الأولى عربياً في مؤشر الديمقراطية"، ففي مثل هذا الواقع الداخلي والخارجي تحديداً، يصبح لهذا العنوان والتصنيف معنى، مرتبط بالزمان والمكان والظرف التاريخي الدقيق الذي تعيشه المنطقة والعالم. أليس كل شيء نسبة وتناسبا؟ أليس مخاض ما يسمى "الربيع العربي" مستمراً، بل طال وطالت آلامه بما يفوق طاقة كثيرين على الاحتمال؟ أليست المآلات متباينة، والآمال بالتغيير إيجاباً لا يزال فيها شيء ينبض، وإنْ بعسر شديد، على الرغم من الاختلاف على المنطلقات؟
عندما يتبادل أبناء الوطن الواحد توجيه نيران بنادقهم إلى صدور بعضهم بعضاً، وتنحو لغة التخاطب إلى ما يفرقهم ويمايز بينهم أكثر مما يجمعهم، وعندما تضيق بهم المساحات التي ضمتهم معا قروناً، مع ضيق صدورهم ونقصان قدرتهم على التسامح والعيش المشترك، وتصبح المفاوضات السياسية منصبّة على تقاسم الثروة ورفع الأسوار، أكثر من الإقبال بشغف وصدق على التجربة الديمقراطية والاقتراب من المواطن والاستماع إليه والانطلاق معه في إنشاء بنيان جديد.
عندما تتجمع مكونات الصورة أمامنا بهذه القتامة، يصبح لنموذج الديمقراطية الذي صاغته تونس، على طريقتها، معنى عميق، يبعث برسالة أمل بأن العرب غير الواثقين من أنفسهم أصلاً قادرون على الديمقراطية، إن أرادوا وصدقوا في إرادتهم، ورسالة قرص أذن، وتحذير بأن لا بديل عن الديمقراطية إلا بالفوضى والدماء، يطول أمدهما بقدر طول أمد التردد والمماحكة والتذاكي والأنانية.
نعم، تونس الأولى عربياً في مؤشر الديمقراطية، على الرغم من هشاشة التجربة وصعوبة الظرف داخليا. هي ليست النرويج ولا الدنمارك ولا ألمانيا، لكنها قفزت بـ36 نقطة إلى الأمام على مستوى العالم. هي في مرتبة جيدة جداً، على الرغم من تأويلات سلبية ـ سالبة للتصنيف بأنه "ذر رماد في العيون"، وتصفيقٌ لا يغير في واقع المواطن التونسي شيئاً، ولا يضيف إلى جيبه مليمات إضافية يحتاج لها بشدة. ولكن، في التجربة ما يستحق بعض التضحية، وما يستحق شعوراً بالفخر وإن خجولاً، وما يستحق أكثر من التصفيق والتهليل، يد صديقة، لا يد صَدَقة، تمتد لتساعد هذا البلد الصامد في تواضع، على الوقوف، والاعتدال في وقفته.