تونس خارج المنافسة
نعم، تونس خارج المنافسة. هي ليست مصر ولا سورية ولا العراق، ولا هي اليمن، ولا ليبيا جوارها المباشر في المغرب العربي. أرهق كثيرون أنفسهم في المقارنات والمقاربات بين ما يجري في بلادهم، وما تتعرض له ثوراتهم أو انتفاضاتهم أو مساراتهم السياسية، وبين ما يجري في تونس، منذ انطلقت شرارة الربيع العربي من ربوع تونس الخضراء في ديسمبر 2010، عندما أشعل الشاب محمد البوعزيزى النار في نفسه، لتسري في كل أوصال المجتمع التونسي، وتطال نيرانها زين العابدين بن علي وأسرته ليفرّ هارباً، ويتفجر الأمل قوياً في وجدان ملايين البسطاء في الوطن العربي بدرجات مختلفة، الأمل في أن ينتقلوا إلى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية. وخرجت ملايين إلى الشوارع، ولكن، اختلفت المسارات من بلد إلى آخر. فليس كل بلد تونس، وليس كل رئيس بن علي، وليست حركة النهضة كأي حركة أو تنظيم ينتمي إلى فكر جماعة الإخوان المسلمين في أي بلد آخر، وليس راشد الغنوشي كأي مرشد عام أو مراقب عام للتنظيم، مع اختلاف المسميات، وإن كانت القاعدة الفكرية والقيمية التي يرتكز عليها الجميع من نبع واحد؟
الأهم أن الشعب التونسي، بكل مكوّناته، وتراثه الحضاري، وثقافته المجتمعية، وتنوعه المتناسق، ليس كأي شعب آخر من شعوب الربيع العربي، على الرغم من مشتركات ثقافية وتاريخية. ولا مسيرة حركة التحرر الوطني التونسي تاريخياً كأي مسيرة من التي شهدتها شعوب دول الربيع العربي، خصوصاً من منتصف القرن العشرين، والتي تميزت في تلك الدول بالدور الرئيسي والمحوري الذي لعبته الجيوش الوطنية، عبر انقلاباتها الثورية، وهو القاسم المشترك الأعظم بين تلك الدول. مصر وحركة الضباط الأحرار المباركة التي تحولت إلى ثورة يوليو 1952، العراق وثورة اللواء عبد الكريم قاسم 1958، اليمن وثورة العقيد عبد الله السلال في 1962، ليبيا وثورة الملازمين بقيادة معمر القذافي 1969، سورية وانقلاباتها العسكرية وآخرها انقلاب اللواء حافظ الأسد في 1970، وتأسيس نظم حكم شمولية بأشكال مختلفة، تحت شعارات وطنية وقومية ووحدوية واشتراكية، وهو ما لم يحدث في تونس، وإن كان الأمر مختلفاً، إلى حد ما، في المرحلة السابقة على موجة "الثورات العسكرية القومية"، في النصف الأول من القرن العشرين، حيث كانت هناك درجة من المقاربة بين الحراك الوطني من أجل التحرر في هذه البلدان، ومنها تونس.
كانت تونس تحت الحماية الفرنسية إبان الحرب العالمية الأولى، ومع إعلان الرئيس الأميركي، ولسن، عن مبادئه حول حق الشعوب في تقرير مصيرها، والإعلان عن مؤتمر السلم في باريس 1919، طالبت اللجنة الجزائرية التونسية، والزعيمان الوطنيان، محمد باش حامية من منفاه في سويسرا، وعبد العزيز الثعالبي زعيم الحزب التونسي، الرئيس الأميركي بمشاركة وفد تونسي في المؤتمر، سعياً إلى الاستقلال، ولم يتحقق مطلبهم، واستمر الحراك الوطني التونسي. وهذا يتسق مع حركة سعد زغلول وحزب الوفد في مصر وثورة 1919، والتي أسفرت عن تصريح 28 فبراير 1922، وإنهاء الحماية البريطانية والاعتراف باستقلال مصر، كما تأثرت الحركة الوطنية التونسية بحركة مصطفى كمال أتاتورك، وطرد الحلفاء من تركيا في عام 1921.
استمرت الحركة الوطنية التونسية في مسارها السياسي، وتأسس الحزب الحر الدستوري التونسي، وتطور إلى الحزب الحر الدستوري الجديد في الثلاثينات، وكان الحبيب بورقيبة من أبرز زعمائه، وهو الذي تولى قيادة مسيرة الحركة الوطنية التونسية سنوات طويلة، حتى توصل إلى بروتوكول الاستقلال في مارس/آذار 1956، وتكوين مجلس تأسيسي تونسي، وانتهى الأمر بإلغاء الملكية وحكم البايات وإعلان الجمهورية في 25 يوليو/تموز 1957، واختيار بورقيبة أول رئيس لجمهورية تونس، واستمر رئيساً، حتى عزله بن علي في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، وكان وزيراً للداخلية ومديراً سابقاً للأمن الوطني سنوات طويلة، وكان قبلها جنرالاً عسكرياً، وتولى السلطة، لكنه لم يستند إلى الجيش في انقلابه، بل إلى منصبه الأمني، وإلى تردّي الأحوال في أواخر عهد بورقيبة. في هذا السياق، كان مسار الحركة الوطنية، وطبيعة تكوين النظام السياسي الوطني في تونس مختلفاً عن باقي سياقات دول الربيع العربي الأخرى. وجاءت فترة حكم بن علي في بدايتها وكأنها استمرار لهذا السياق، ولاقت ترحيباً من الشعب التونسي، لكنه تحول إلى تأسيس نظام حكم سلطوي أمني شديد القمع، ثم تفجرت الثورة ضده. ولطبيعة الشعب التونسي الحضارية، كانت ثورة سلمية، على الرغم من أن شرارتها كانت إشعال البوعزيزي النار في نفسه. ومن هنا، عرفت بثورة الياسمين، وكانت تطوراتها سريعة، حيث أدرك بن علي مبكراً أنه هو وأسرته المقصودان، أساساً، بثورة الجماهير، فهرب بطائرته إلى جدة، ضيفاً على الحكومة السعودية.
منذ البداية، اختارت تونس الطريق الدستوري للتغيير، بعد فرار بن علي، وبعد مجادلات عديدة، تم تكليف رئيس البرلمان القائم وقتها برئاسة البلاد، وكان فؤاد المبزع، ثم أشرفت الحكومة، برئاسة الباجي القائد السبسي، على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (الانتقالي)، وكان منوطاً به تشكيل الحكومة المؤقتة، وإنجاز دستور جديد، وانتخاب رئيس مؤقت. وفازت في تلك الانتخابات بالأكثرية، دون الأغلبية، حركة النهضة الإسلامية، المحسوبة على فكر الإخوان المسلمين، وليس تنظيمياً، ونجحت في تكوين ائتلاف يمثل الأغلبية وتشكيل الحكومة، وتم انتخاب سياسي وطني محسوب على اليسار رئيساً للجمهورية، هو المنصف المرزوقي. ولكن، لم تسر الأمور في مجراها السياسي، وحدثت الأزمة المجتمعية الحادة، وكادت أن تعصف بتونس وحراكها الثوري، وهنا، برزت قوة المجتمع المدني وتحالفاته، وأيضاً، حكمة النخبة السياسية ووعيها، سواء من حركة النهضة، صاحبة الأكثرية، أو من باقي القوى، والتفّ الجميع حول طاولة حوار وطني، انتهت بالاتفاق، بتجرد كامل، حول تغليب مصلحة الوطن على مصالح التنظيم والحزب والتيار، بتشكيل حكومة تكنوقراط، إلى حين الاحتكام إلى الشعب، صاحب الحق الأصيل في فرض إرادته. لم تكن الأمور سهلة، ولم تمر ببساطة، ووقعت اغتيالات واضطرابات وانقسامات، لكنها بقيت في إطار ما يمكن تسميته "العنف السياسي"، وليس العنف العسكري، حيث بقيت المؤسسات العسكرية والأمنية خارج نطاق الصراع السياسى!
وكان الباجي السبسي، رئيس الحكومة السابق والسياسي المخضرم، قد شكل ائتلافاً، أو حركة سياسية، باسم نداء تونس، في عام 2012، لمنافسة التيار الإسلامي، ولأن الحركة ضمت سياسيين قدامى كثيرين، وتيارات موصوفة بالمدنية والعلمانية، تصور بعضهم أن الحركة تمثل نظاماً سقط، وعهداً مضى، بينما يعتبرها بعضهم، كما تروج نفسها أيضاً، أنها تحمل توجهات بورقيبة الوطنية، والمنفتحة أيضاً، وليس توجهات بن علي، بما تمثله من فساد وسلطوية أمنية.
وجرت الانتخابات البرلمانية بشفافية وحيدة ونزاهة، وفازت "نداء تونس" بالمرتبة الأولى، تلتها "النهضة"، وقبل الجميع النتيجة قبولاً حسناً، وهنأ الغنوشي الباجي فور إعلان النتائج، وقال كلمة تستحق الوقوف عندها، "قرر الشعب التونسي أن يعطى الأكثرية لنداء تونس، وأن تشارك النهضة في الحكم، ونحن مستعدون للمشاركة في حكومة توافقية، أو المشاركة بالعمل في المعارضة السياسية"، والأهم أنه أكد عدم دخول النهضة في معترك المنافسة على منصب الرئاسة، تقديراً للظروف، وسعياً إلى إنجاح التجربة الديموقراطية. وانطلقت الانتخابات الرئاسية، لتسفر جولتها الأولى عن الإعادة بين المرزوقي والسبسي. ولأن ذلك كان غريباً على مجتمعاتنا العربية، وعلى ثقافتنا التي تحولت نحو الاستقطاب والحدية في الانتماء، وصعود مفاهيم، إما كل شيء أو لا شيء والاتجاه إلى الصدام، جاءت ردود الفعل فاترة ومنددة بموقف الغنوشي و"النهضة"، بل ومبشرة لهم بالثبور وعظائم الأمور، مع اتهامهم بالتنازل والتهاون. وأغلب هذه الاتهامات جاءت، للأسف، من منتسبين للتيارات الإسلامية، وأيضاً التيارات الثورية، أو التي تعتقد أنها ثورية.
ولكن، تغافل الجميع عن حقيقة أن للتجربة التونسية خصوصيتها النابعة من طبيعة حركتها الوطنية في الأساس، وإدراك الشعب التونسي، بوعيه التاريخي، أن التحول الديمقراطي الحقيقي لن يتحقق إلا بالإصرار على المسار السياسي، وإعلاء شأن الانتخابات، لا الانقلابات، مهما كانت أنواعها. وعلى من يعشقون المقارنات أن يتذكّروا أن الحركة الوطنية التونسية بدأت مع الحركة الوطنية المصرية في المطالبة بالمشاركة في مؤتمر السلم في باريس 1919 لإنهاء الحماية والحصول على الاستقلال، وانتهت الحماية البريطانية في مصر 1922، بينما انتهت الحماية الفرنسية في تونس في 1956. لكن، شتان بين ما آلت إليه الأمور في كل من مصر وتونس.
.. كفّوا عن المقارنات، ولينشغل أهل الربيع العربي بأمورهم وأحوالهم، واتركوا تونس تكمل تجربتها، لأنها خارج المنافسة.