تونس: حكومة الصيد تبحث عن هدنة اجتماعية

27 سبتمبر 2015
تهديد نقابي بالتصعيد في مواجهة أرباب القطاع الخاص (الأناضول)
+ الخط -

تدرك الحكومة التونسية برئاسة الحبيب الصيد، الحاجة إلى تحقيق هدنة اجتماعية طويلة نسبياً، تضمن لها دفع عجلة الإنتاج المتوقفة في الاتجاه المعاكس، وتحقيق إنجاز للتونسيين يقودهم إلى الإحساس بأن شيئاً ما يتغيّر. وتقوم هذه القناعة على جملة من الاستنتاجات الموضوعية، أولها اقتصادية وتتعلق بنسبة النمو التي لا تكاد تتجاوز الصفر، وتراجع أغلب مؤشرات الإنتاج، والديون المرتفعة، في مقابل انكماش الاستثمارات بما يؤشر لصعوبات مستمرة على المدى المتوسط، على الرغم من تراجع أسعار النفط الذي أنقذ الاقتصاد التونسي، وتطور صادرات زيت الزيتون والتمور هذا العام.

غير أن هناك أسباباً سياسية مباشرة لهذا الوضع، فالحكومات المتعاقبة منذ الثورة التونسية فشلت في تعديل الوضع الاقتصادي بسبب الإضرابات الكثيرة، ما شكّل بنسبة كبيرة سبباً رئيساً لسقوطها في الانتخابات التشريعية الأخيرة. وقد بنى حزب "نداء تونس" جزءاً مهماً من استراتيجيته الانتخابية التي قادته إلى الفوز، على ما سماه "فشل الترويكا" و"غياب الدولة" و"تراجع سلطة القانون والمؤسسات".

ولكن السبب السياسي العميق لهذا الوضع يكمن في التوازن السياسي الفعلي الذي يمثّل "الاتحاد العام التونسي للشغل" لاعبه الأهم، فالنقابة الأكبر في تونس كانت على امتداد تاريخها مصدراً حقيقياً للتوازن السياسي والاجتماعي في البلاد، ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها. ولعل نجاح هذه النقابة في إدارة الحوار الوطني الذي أخرج تونس من أزمتها وقادها إلى الانتخابات الأخيرة، خير دليل على دورها الجوهري وسلطتها الفعلية وتأثيرها على الأحزاب وعلى الدولة في الوقت نفسه.

غير أن "اتحاد الشغل" ليس مجرد نقابة تكتفي بدورها الاجتماعي والنقابي فقط، وإنما هو أيضاً لاعب سياسي مهم يتشكّل من تيارات سياسية مختلفة أغلبها يساري وقومي، هي اليوم مجتمعة في المعارضة التي لا تؤثر فعلياً في القرار السياسي داخل مجلس النواب، ولا يبدو أمامها من طريق للمعارضة الحقيقية غير الشارع. وهي تحاول على الرغم من اختلافاتها الحزبية، استغلال ما يتاح أمامها للتصدي لما تراه مناقضاً لأهداف الثورة، وتنظر إليه الحكومة على أنه "عصا في العجلة" لتعطيل مشاريعها.

ولكن هذه المنظمة العمالية، كما الأحزاب، تتقاذفها أيضاً طموحات انتخابية استعداداً لمؤتمرها المقبل في عام 2016، وهو ما دفع بعض تياراتها إلى رفع سقف المطالب لتحقيق مكاسب انتخابية استعداداً لذلك.

وعلى هذا الأساس استعملت حكومة الصيد، ومن ورائها الرئيس الباجي قائد السبسي، كل الحلول بحثاً عن هدنة اجتماعية عبر التوافق مع "اتحاد الشغل"، من خلال التفاوض المباشر أو من خلال الخماسي الجديد الذي يتكوّن من الحكومة و"اتحاد الشغل" واتحاد رجال الأعمال ورئاسة الجمهورية ومجلس النواب. وحاولت أيضاً من خلال إقرار قانون الطوارئ الحد من الاضطرابات الاجتماعية، خصوصاً في الحوض المنجمي حيث تبدو الإضرابات موجعة جداً لخزينة الدولة، وهو ما فهمته النقابات والأحزاب بسرعة، وأقره الصيد بنفسه حين أكد في حديث سابق لـ"العربي الجديد" أن هناك إيجابيات كثيرة في الفترة التي شملها قانون الطوارئ إلى حد الآن.

اقرأ أيضاً: توجه نحو تعديل مشروع قانون المصالحة الاقتصادية في تونس

وفي ضوء هذا التناقض الواضح بين الحكومة والنقابة، يقف الأمين العام لـ"اتحاد الشغل" حسين العباسي، كشخصية حاسمة في تحديد ملامح هذه العلاقة، فالرجل الذي قاد بنفسه إلى نجاح الحوار الوطني، يرفض أن يدفع المواطنون البسطاء وحدهم ثمن الظروف الصعبة، ويطالب بتقاسم الأعباء، وبعدالة ضريبية في الإصلاحات الجديدة، كما يحاول أن ينأى بمنظمته عن التجاذبات التاريخية والموضوعية التي تتنافس عليها.

غير أن العباسي يرفض في حديث مع "العربي الجديد" كل المحاولات التي تهدف إلى "تقزيم وتحجيم دور المنظمة التي كانت دائماً منظمة وطنية معنية بكامل الشأن الوطني، بما في ذلك الخيارات السياسية". كذلك يرفض العباسي مصطلح "الهدنة"، لأن تونس ليست في حرب على حد قوله، ويسمي توصل الاتحاد إلى اتفاق مع الحكومة منذ أيام بالاستقرار الاجتماعي على مدى سنتين.

ووقّعت حكومة الصيد مع "اتحاد الشغل" اتفاقاً مهماً قضى بزيادة أجور نحو 800 ألف عامل في القطاع العام على مدى السنتين المقبلتين، ومنع المطالبة بالترفيع فيها خلال هذه الفترة. غير أن هذا الاتفاق يبقى منقوصاً بسبب رفض القطاع الخاص التوقيع على اتفاقات مماثلة، ما دفع ببعض قياديي الاتحاد إلى التهديد بإضراب في القطاع الخاص، وهو الذي يشمل نحو مليون ونصف المليون عامل.

وتوترت العلاقة بشكل كبير بين "اتحاد الشغل" والقطاع الخاص في الأشهر الأخيرة على الرغم من وقوفهما جنباً إلى جانب خلال الحوار الوطني، ولكن العباسي يرفض التصعيد مع أرباب العمل، داعياً إياهم في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى "حوارات جدية تقود إلى اتفاقات حقيقية، وحينها يمكن الحديث عن استقرار اجتماعي حقيقي، والانصراف إلى التفكير في كيفية تحقيق أهداف الثورة، وأولها تحقيق التنمية والعدالة المناطقية".

ويؤكد العباسي أن الإضراب الأخير الذي شهده قطاع ناقلي المحروقات لم يكن بسبب المطالبة بزيادات جديدة وإنما بتفعيل اتفاقيات موقّعة بين الطرفين منذ مدة، مشيراً إلى أن الاتحاد دعا إلى الحوار حول هذه الاتفاقيات مرات عديدة ولكنه قوبل بالمماطلة والتهرب من الاتفاق. ويوجّه اللوم إلى "بعض وسائل الإعلام التي تحاول أن تتهم دائماً "اتحاد الشغل" وتغض الطرف عن حقوق العمال التي وُضعت الاتفاقيات حولها"، معلناً أن اتفاقاً وشيكاً سيُوقّع بين نقابة المعلمين ووزارة التربية، بعد أشهر من معركة قاسية بينهما.

وإذا كانت الحكومة تعتبر أن ما توصلت إليه إنجاز مهم على درب تحقيق هذه الهدنة أو الاستقرار الذي سيمكّنها من الشروع في تنفيذ مخططاتها، فإن التحديات المقبلة ستكون في المقابل شرسة، أولها قانون المصالحة، ويليها السياسة التنموية الجديدة التي ستبرز أهم ملامحها في ميزانية العام المقبل.

اقرأ أيضاً: رافضو "المصالحة" في تونس: تظاهراتنا نجحت رغم الترهيب والتخويف