"استثناء" يُكافأ ممثلوه، اليوم الخميس، بتسلّم جائزة نوبل العالمية الشهيرة، وكأنها جائزة لتونس نيابة عن باقي الثورات العربية المجهضة من قبل الثورات المضادة والإرهاب وقد حولاها حروباً أهلية دامية، إلا في تونس.
يذكر التونسيون جيداً كيف تجمّع أنصار الشقين المختلفين وجهاً لوجه في ساحة باردو، على بعد أمتارٍ، يدعو كل منهما إلى إسقاط الآخر، في حالة من التشنّج القصوى التي كانت تنذر بالأسوأ، وسط اتهامات متبادلة ومناخ من الريبة المتبادلة، وعلى إيقاع سيناريو مصريٍّ عصف بالتجربة كلها وألقى بقياداتها في السجون والمنافي من جديد.
وفي حين كان كل طرف من الفريقين، يستعرض قوته الشعبية ويتمترس وراء شرعيات مختلفة، ويستعدّ للمواجهة الحتمية، برز ضوء بعيد في ساحة محمد علي، مركز "الاتحاد العام التونسي للشغل"، ليمنح الطرفين حلاً بديلاً عن المواجهة، وفارضاً على الجميع إبعاد فكرة الإقصاء والالتقاء حول طاولة واحدة، من أجل الحوار وإخراج البلاد من حالٍ إلى حالٍ.
واستنجد الاتحاد بمنظمات عريقة في النضال والديمقراطية، كعمادة المحامين ورابطة حقوق الإنسان، ثم التحقت بهم منظمة أرباب العمل، ليرعى الرباعي حواراً وطنياً انتهى بالجميع إلى أوسلو، حيث يُحتفى بهم اليوم بمنحهم جائزة نوبل للسلام.
ولم تكن مهمة الرباعي باليسيرة إطلاقاً، فقد كان يتحتّم عليه أولاً أن يضع خارطة طريق واضحة، وسط مناخ من الغموض والشكّ المطلق، تمثلت نقاطها الأساسية في تنظيم انتخابات عامّة تحت إشراف حكومة كفاءات مستقلة، لا يترشح أعضاؤها للانتخابات الرئاسية والتشريعية، فضلاً عن تشكيل ثلاثة مسارات: مسار "الهيئة العليا المستقلة للانتخابات"، ومسار صياغة الدستور الجديد، والمسار الحكومي (تشكيل حكومة الكفاءات)، وفق جدول أعمال يمتد لأربعة أسابيع، بدءاً من 25 أكتوبر/تشرين الأول 2013. وركّز الجدول على تسمية رئيس حكومة مستقل أو محايد، مع نهاية الأسبوع الأول من بداية الحوار الوطني، ثم اختيار التشكيلة الحكومية المحايدة.
اقرأ أيضاً: الاتحاد العام التونسي للشغل: تاريخ من الأخطاء والأمجاد
وفي الأسبوع الثاني، تمّ تشكيل "الهيئة المستقلة للانتخابات" واختيار كامل أعضائها، بعد استئناف لجنة الانتخابات أعمالها وعودة النواب المنسحبين إلى المجلس التأسيسي، استجابة لشروط مبادرة الحوار الوطني. تلاها إعداد قانون انتخابي لتنظيم الانتخابات المقبلة، واستئناف "لجنة التوافقات حول الدستور" المنصوص عنها في صلب المجلس التأسيسي، أعمالها مع عودة النواب المنسحبين إلى المجلس، وبداية حسم المسائل الخلافية بخصوص المسودة النهائية لمشروع الدستور.
وكان يُفترض أن تُقدّم حكومة علي العريض (حركة النهضة) مع نهاية الأسبوع الثالث استقالتها رسمياً، غير أن هذا الخيار لم يكن يحظى بموافقة أغلبية أنصار الحركة وكثير من قياداتها، التي كانت تتمسك بالشرعية الانتخابية. لكن رئيس "النهضة" راشد الغنوشي، وقّع الاتفاق واضعاً الجميع أمام الأمر الواقع، أي القبول بالحوار "حتى لا يسقط سقف البيت على الجميع"، وفق تعبيره.
ويروى قيادي بارز من "النهضة" لـ"العربي الجديد"، أن "الغنوشي دفع باهظاً ثمن ذلك، عندما التقى بقيادات مجلس الشورى، وبقي صامتاً يستمع لاتهامات ما كان يُعرف بصقور النهضة، غير أن الجميع، بات متأكداً من صحة ذلك الخيار".
وبالعودة إلى مخاض هذه الفترة وصعوباتها التي كانت تهدد كل مرة بنسفها بالكامل، يذكر المتابعون خلافات الدستور والقانون الانتخابي، حول قضايا الهوية والمساواة بين الجنسين ومناصفة القوائم الانتخابية بين الرجال والنساء، والخلاف حول خياري "النظام البرلماني"، الذي نادت به "حركة النهضة"، و"النظام الرئاسي المعدّل"، الذي كانت تطالب به "جبهة الإنقاذ".
ورغم كل هذه الخلافات الجوهرية، التي كان يتطلّب حلّ كل منها أشهراً طويلة، سادت حكمة ما على الأطراف المتنازعة، خوفاً من الفشل الذريع الذي أحاط بكل التجارب العربية الأخرى، في اليمن وليبيا وسورية ومصر. وكانت الأحزاب والشخصيات المتحاورة تتقاسم نفس الخوف من احتمال إضاعة فرص الحرية المتاحة والسقوط في خيارات أخرى، أقلّها العنف المتبادل، وأهمها إهدار فرصة التاريخ ببناء ديمقراطية جديدة.
وكان لافتاً أيضاً الإشارة إلى مناخ عدم الثقة المتبادلة بين "حركة النهضة" و"اتحاد الشغل"، التي كانت طاغية منذ الثورة حتى الحوار الوطني، واتهام الحركة للاتحاد بتعطيل حكومة الترويكا، بينما اتهم الاتحاد الحركة بمحاولة "أخونة" البلاد والسيطرة على مفاصل الدولة.
مع العلم أن الغنوشي اليوم بات يشيد بالاتحاد وبدوره الكبير وقتها، ما يُفسّر هذه الطريق الطويلة التي قطعها التونسيون منذ ذلك الوقت، توصّلوا خلالها إلى إنجاز انتخابات تشريعية ورئاسية شفافة، وتسليم السلطة بشكل حضاري، وإنجاز دستور أشادت به جهات كثيرة من العالم، والشروع في إنجاز المؤسسات الدستورية المتتالية، وصولاً إلى المحكمة الدستورية منذ أسابيع. كما تجلّت أبرز الإنجازات في تشكيل حكومة توافقية بين "الإخوة الأعداء"، "النهضة" و"نداء تونس"، على الرغم من الأثمان التي يدفعها كل منهما اليوم داخل حزبه.
ولكن ما حدث في العاصمة الفرنسية، باريس، العام الماضي، بالتوازي مع الحوار الوطني ومساره التوافقي، شكّل لحظة سياسية فارقة، حين اجتمع الغنوشي والرئيس الباجي قائد السبسي، قبل انتخابه رئيساً، واتفقا شفهياً على المضيّ بالبلاد إلى برّ الأمان، على الرغم من معارضة كل المحيطين من قريب أو بعيد.
ولعلّ إشارة "اتحاد الشغل"، أمس الأربعاء، في بيان حول الجائزة، تؤكد هذه الفلسفة التونسية. وقد أكد بيان الاتحاد أن "منح جائزة نوبل للسلام، هو اعتراف بما للحوار من أهمية، باعتباره اعترافا بالآخر ووعي بأنه لا توجد حقيقة مطلقة، وأن المصير التونسي مشترك".
وشدّد البيان على أن "الجائزة تندرج في إطار ترسيخ ثقافة الحوار، بما تعنيه من نبذٍ للعنف والعدوانية والعنصرية والتطرّف والإرهاب بمختلف أشكاله، وما يترتّب عن هذه الظواهر السلبية من تهديدٍ دائم لحياة الإنسان والسلام".
يُذكر أن أوسلو، تحوّلت منذ يوم الثلاثاء، إلى عاصمة تونسية، بوصول العشرات إليها، في رحلات عدة، ومنها رحلة على متن طائرة خاصة حملت اسم "طائرة السلام"، نقلت 80 مسؤولاً نقابياً و30 محامياً و20 حقوقياً، بالإضافة إلى عدد كبير من الإعلاميين التونسيين، ونشطاء المجتمع المدني وحقوق الإنسان وجامعيين.
ولم يغب عن هذه الرحلة إلا منظمة "أرباب العمل"، بسبب الخلاف بين النقابة ومنظمتهم حول الزيادة في أجور عمال القطاع الخاص، وعلى الرغم كل المحاولات التي سعت إلى التوصّل لاتفاق قبل حفل اليوم، فقد بقي الخلاف قائماً، ويهدّد بجولة ثانية من الإضرابات في حال العودة إلى تونس.
وسيتمّ اليوم استثنائياً، توزيع أربع ميداليات ذهبية على ممثلي المنظمات الأربع، بالإضافة إلى ميدالية خامسة باسم "الرباعي للحوار الوطني"، يتم الاحتفاظ بها لتونس، باعتبار أن الميداليات الأخرى ستبقى مع كل مكوّن من الرباعي، وسيتضمن البيان أربع فقرات، تتولّى كل شخصية قراءة الفقرة الخاصة بها.
وقد وصل الرباعي إلى أوسلو من باريس، بعد أن منحهم الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، صباح الثلاثاء، "وسام الشرف" بقصر الإليزيه بباريس، الذي قال إن "الوسام هو بمثابة رسالة إلى كل الديمقراطيين، لمواصلة العمل والجهد، بهدف المحافظة على مكتسبات الثورة، لأن الرباعي تحمّلوا مسؤولياتهم وعبّروا عن التزامهم وقدّموا مقترحات لتحقيق التوافق، بما سمح بوضع دستور 26 يناير/كانون الأول 2014، واستعادة الأمل، بعد أن ساد شيء من التخوّف إزاء إمكانية حدوث قطيعة محبطة لعزائم الشعوب، إثر الربيع العربي".
وأضاف الرئيس الفرنسي أن "إسناد جائزة نوبل للسلام، للرباعي الراعي للحوار في تونس، هو اعتراف بمساهمته في إرساء السلام وفي إنجاح الانتقال الديمقراطي"، داعياً ممثلي المنظمات الأربع إلى "المواصلة على هذا المنهج".
ويتساءل التونسيون والمراقبون في الخارج عما إذا كان نهج الحوار سيتواصل، وما إذا كان يمكن أن يُشكّل هذا مثال ونموذجاً لمجتمعات أخرى، فشلت في تحقيق ربيعها الخاص، وحوّلته إلى فضاء للفوضى، عمّقتها التهديدات الإرهابية المحيطة، التي تبقى أهم تحديات التونسيين اليوم، الذين أعادوا ترتيب أولوياتهم.
اقرأ أيضاً: تونس.. الإرهاب ضد الثورة والديمقراطية