يتوجه التونسيون، اليوم الأحد، نحو صناديق الاقتراع لوضع حدٍّ لمرحلة المؤقت التي استمرت حوالي أربع سنوات مضت من ثورتهم. فعندما غادر الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي، يوم 14 يناير/كانون الثاني 2011، اتجه تفكير التونسيين نحو القطع مع آليات النظام السابق، واستبداله بنظام ديمقراطي قابل للحياة والصمود في وجه المخاطر وروح الردة السياسية. وفي انتظار إنجاز هذا الهدف الكبير، تم التوافق على وضع هيئات مؤقتة من شأنها أن تسمح بإدارة الشأن العام، وفي نفس الوقت يتم تهيئة شروط الانتقال إلى الحالة الدائمة والمستقرة.
كانت الخطوة الأولى مع صياغة دستور جديد، وتأتي الانتخابات البرلمانية والرئاسية لتشكل اللبنة الثانية من المرحلة الانتقالية، والتي ستسمح بقيام نظام سياسي مرشح للاستمرار، وستعطي الفرصة للقوى السياسية الفائزة في الانتخابات بأن تعمل لمدة خمس سنوات. وهو ما سيساعد كثيراً الأطراف الداخلية والخارجية على التعامل مع ممثلين شرعيين يتمتعون بالغطاء الدستوري والشرعية الشعبية والمؤسساتية، ويحظون بالفترة الزمنية الكافية لمواجهة المشكلات واختبار البدائل التي أعدوها والسياسات التي سينفذونها.
بناءً عليه، تكتسب هذه الانتخابات أهمية رمزية وسياسية عالية، إذ يُفترض أنه بعد إعلان النتائج أن يقع عدم الطعن فيها، إلا في حال وجود أدلة قطعية على حصول تزوير واسع من شأنه أن ينقض المسار برمته. وإذا لم ترتق الطعون إلى هذه الدرجة من الخطورة، وهو الاحتمال الأقرب للواقع في ظل سعي الهيئة المستقلة للانتخابات أن تبقى بعيدة عن الشبهات، يصبح عندها لزاماً على الجميع الاعتراف بشرعية الفائزين، وبالتالي التعامل معهم أو ضدّهم وفق الآليات الديمقراطية ومقتضيات القانون. وبذلك تتخلص تونس من "الحرب" التي استمرت طيلة المرحلة الماضية بين مكونات الترويكا من جهة، ولا سيّما حركة النهضة، وبين خصومهم من معظم مكونات التيارات العلمانية وغيرها.
أما البعد الآخر لهذه الانتخابات، فهو الدور التاريخي الملقى على البرلمان المقبل، الذي سيكون أول برلمان تعددي ينتخب بديمقراطية حقيقية وفعلية. هذا البرلمان مطالب بإنجاز مهمتين رئيسيتين، تتعلق الأولى بتزكية الحكومة المقبلة، ومراقبتها ومحاسبتها، وربما إسقاطها في حال فقدانها للأغلبية.
أما المهمة الثانية للبرلمان المقبل تشريعية بالأساس، وتتعلق بوضع سلسلة القوانين التي من شأنها أن تترجم المبادئ والحقوق التي تضمنها الدستور الجديد، وتعمل على تحويلها إلى واقع فعلي. وهي المهمة التي خانتها البرلمانات السابقة التي تعاقبت في تونس منذ الاستقلال، وذلك عندما سنّت تشريعات كانت في الغالب متناقضة مع روح الدستور الذي أصدره المجلس التأسيسي الأول عام 1957. إذ بدل أن تبقى تلك البرلمانات وفية للمبادئ الدستورية، قامت بإفراغها من محتواها التقدمي، وذلك بتقييدها وأحياناً القيام بنسفها، وذلك من أجل تكريس الاستبداد السياسي، وتثبيت الحكم الفردي، والخضوع لمنطق الحزب الواحد.
أما العامل الثالث الذي يكسب هذه الانتخابات بعداً خاصاً وتاريخياً، هو أنها ستحدد الخارطة الحزبية والسياسية الجديدة. ولعل أهم ما يميز توقعات المرحلة المقبلة، أن هذا الانتخابات لن تفرز حزباً مهيّمناً على الحكومة والدولة. فالقانون الانتخابي وتوقعات مراكز استطلاعات الرأي تكاد تجمع على أن الحكومة المقبلة ستكون بالضرورة ائتلافية، لأنه سيكون من المستحيل تقريباً أن يكتسح حزب بمفرده أغلبية مقاعد البرلمان. وهذا يعني أن تونس قد قطعت نهائياً مع منظومة الحزب الحاكم أو المهيّمن. وبالتالي فإنّ الأحزاب، رغم تناقضاتها واختلافاتها الخاصة بالأيديولوجيا والسياسة مضطرة للتعايش فيما بينها، وفق آليات ديمقراطية. فالصيغة الائتلافية تفرض على أصحابها إعطاء الأولوية للبرامج على حساب المواقف النظرية، كما أنها تدفع بالجميع إلى التنازلات المتبادلة لتشكيل الحكومة وإنجاحها. لكن حتّى تنجح فلسلفة الحكومات الائتلافية يجب أنّ تتشكل وفق منطق المصالح العليا للبلاد، وليس بمفهوم المحاصصة الحزبية التي جربها التونسيون وتضرروا بسلبياتها العديدة.
لهذه الأسباب الثلاثة، سيبقى يوم الأحد 27 أكتوبر/تشرين الأول 2014 ذكرى راسخة لدى التونسيين، يتناقلونه جيلاً بعد جيل، عندما يدركون بعد فترة أن هذا الحدث كان فاصلاً في مسيرة ستجعل منهم أوّل شعب عربي يبني ديمقراطية حقيقية بأقل الأثمان والتكاليف.