تونس تتجاوز بنجاح اختبار انتقال السلطة

27 يوليو 2019
تونسيون يبكون السبسي (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
يودّع التونسيون، اليوم السبت، الرئيس الباجي قائد السبسي، الذي سيوارى التراب في مقبرة الجلّاز وسط تونس العاصمة، في جنازة ينتظر أن تكون مهيبة وبحضور محلي وعربي ودولي واسع، مع تأكد حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والشيخ ناصر المحمد الأحمد الصباح ممثلاً أمير الكويت، والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وملك الأردن عبدالله الثاني، وغيرهم.
ونقل جثمان السبسي أمس من المستشفى العسكري إلى قصر الرئاسة في قرطاج وسط استمرار حالة الهدوء السياسي والأمني التي اتسمت بها البلاد منذ إعلان خبر الوفاة الخميس، الأمر الذي عكس صلابة التجربة التونسية ونجاعة مؤسساتها ونضج طبقتها السياسية التي ميّزت بوضوح كبير بين الخلافات السياسية وبين حماية التجربة، في لحظة حساسة للغاية وفي غمرة خلافات سياسية وانتخابية.

وشهدت تونس أول من أمس انتقالاً سلمياً سلساً للسلطة في ظرف ساعات قليلة، ما أكد أن الديمقراطية التونسية اجتازت بنجاح اختباراً جديداً لها، وهو اختبار من الحجم الكبير، صوّر بوضوح التزام التونسيين، جميعهم وعلى اختلافهم، بدستورهم واللجوء إليه لفصل الخلافات.
ولم تنتظر رئاسة الجمهورية أكثر من دقائق معدودة لتنشر خبر وفاة السبسي، وهي إشارة بالغة على تماسك الدولة، وخصوصاً مؤسستيها العسكرية والأمنية، على الرغم من كل التهديدات الداخلية والإقليمية المتصاعدة، لتؤكد أن الوضع الأمني تحت السيطرة، ولا تحتاج وقتاً إضافياً لتتهيأ لإدارة أزمة مماثلة. وتأكد ذلك بعد انتشار الخبر، إذ استمرت الحياة بوتيرة عادية في كل أرجاء تونس ولغاية ساعات الليل المتأخرة وفي اليوم الذي تلاه. وعملت أمس الجمعة كل المؤسسات العامة والخاصة بشكل عادي من دون أي ارتباك أو تغيير في برامجها، مع العلم أن هذا ما حدث أيضاً في الأيام التي تلت مباشرة قيام الثورة، واشتغلت الإدارات والأسواق بشكل عادي جداً ولم تتعطل مصالح المواطنين، ما يعكس صلابة الإدارة التونسية وعمق تجربتها.
وبسرعة قياسية وفي ظرف زمني قصير، اجتمع رئيس البرلمان محمد الناصر برئيس الحكومة يوسف الشاهد، ودعا مكتب البرلمان للانعقاد وحكّم الفصول الدستورية وتلا اليمين الدستورية ليصبح رئيساً مؤقتاً من دون أي فراغ في المنصب، واجتمع بوزراء الدفاع والداخلية والعدل، ثم بهيئة الانتخابات لبحث التغييرات الممكنة.


وبسرعة لافتة أيضاً، اجتمعت هيئة الانتخابات المستقلة وبحثت تغيير موعد الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وحددت لها موعداً مبدئياً يوم 15 سبتمبر/أيلول المقبل. وأكدت مصادر "العربي الجديد" أن الرئيس المؤقت محمد الناصر كان مصراً بشدة على أن تنتهي كل المواعيد الانتخابية، بما فيها الطعون التي تلي الانتخابات، قبل نهاية عهدته في ظرف تسعين يوماً، وألا تتجاوز ذلك حتى بيوم واحد، احتراماً لمقتضيات الدستور.

ونشرت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أمس الجمعة، المطبوعات الخاصة بالتزكيات للانتخابات الرئاسية السابقة لأوانها، ما يعني أنها دخلت مباشرة مرحلة تنفيذ التفاصيل التقنية (تتم تزكية المرشح للانتخابات الرئاسية من عشرة نواب من مجلس النواب، أو من أربعين من رؤساء مجالس الجماعات المحلية المنتخبة أو من عشرة آلاف من الناخبين الموزعين على الأقل على عشر دوائر انتخابية على ألا يقلّ عددهم عن خمسمائة ناخب في كل دائرة منها).
واتضح للجميع، في الداخل والخارج، أن كيفية التعامل مع وفاة الرئيس التونسي تشكّل مرحلة مؤسِّسة جديدة تنبئ بأن هناك إجماعاً بين الفرقاء السياسيين على تفعيل الدستور بحذافيره، على الرغم من المآخذ التي يسوقها بعضهم حوله، وعلى أن يتم الاحتكام إليه دائماً في المواقف الطارئة والدائمة، وهو نقاش سيعود بالضرورة إلى الساحة التونسية بعد أن يتم توديع السبسي اليوم، إذ سبقت قضية احترام الدستور وفاة السبسي، ولكن مختلف الفرقاء اتفقوا ضمنياً على تأجيل هذا النقاش إلى الأيام المقبلة.

شعبياً، اختلطت لدى التونسيين في اليومين الماضيين مشاعر الحزن والفخر، فقد كانت هناك علاقة خاصة بين السبسي والتونسيين، مسانديه وخصومه، تجلت بوضوح في ردود الفعل التي تم تسجيلها بعد خبر الوفاة، والافتخار بهذا الانتقال السلس للسلطة. وتقديراً للتجربة التونسية الاستثنائية في المنطقة، وقف أول من أمس الخميس ممثلو الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة دقيقة صمت ترحماً على روح السبسي. كما ستنظّم الجمعية العامة يوم الخميس المقبل جلسة خاصة لتأبين الرئيس الراحل.

ولفتت في الداخل مواقف كل السياسيين، وخصوصاً خصومه ومنافسيه، التي بدت معتدلة وارتقت إلى ما فوق الخلافات. وتداولت وسائل الإعلام تصريحات أبرز منافسي السبسي المعروفين، ومن بينهم الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، الذي قال في تصريح إذاعي: "سأكون حاضراً وسأحمل نعشه على كتفي... هذا واجب وشرف وضرورة".
بدورها، اعتبرت سامية عبو، النائبة المعروفة بمعارضتها للسبسي والائتلاف الحاكم، أن "الرئيس الراحل يعد جزءاً من تاريخ تونس أحب من أحب وكره من كره... والخلافات السياسية لا يمكن أن تحدّ بأي حال من الأحوال من إنسانية الإنسان"، مشيرة إلى أن "التونسيين سيكونون صفاً واحداً مهما كانت انتماءاتهم".

رئيس حركة "النهضة" راشد الغنوشي، بدا متأثراً في كل التصريحات التي أدلى بها لمختلف وسائل الإعلام التونسية، مشدداً على أن السبسي كان "رجلاً محنكاً وذكياً، رفض إقصاء حركة النهضة على الرغم من كل الضغوط التي مورست عليه". وقال الغنوشي" ليطمئن الشعب... البلاد في أيادٍ أمينة... وليس لدينا انقلابات والحمد لله... لدينا مؤسسات دستورية ساهم الباجي في تأسيسها… ولا يعزينا اليوم إلا أنه ترك تونس على طريق الديمقراطية، ولم يتركنا في حرب أهلية بل تحكمنا مؤسسات دستورية". وتابع الغنوشي "أنا مدين لهذا الرجل الذي حرص على هذا التوافق الذي جنّب تونس الفتن والدماء التي تسيل من دول شقيقة... الرئيس حفظ سيادة تونس الخارجية على الرغم من الصدام ومحاولات التدخّلات الخارجية... خدم تونس ولا يعزينا في هذا الرجل إلا أنه ختم حياته بتوقيعه على وضع تونس على طريق الديمقراطية بإمضائه لدعوة الناخبين إلى الانتخابات المقبلة".