تونس.. المناظرة الرئاسيّة المنشودة
دعا آلاف التونسيين الناشطين على شبكة التواصل الاجتماعي، "فيسبوك"، في صفحة بعنوان "المناظرة الرئاسية واجب ديمقراطي"، المرشحين للدور الثاني من الانتخابات الرئاسية، الباجي قائد السبسي (88 عاماً) والمنصف المرزوقي (69 عاماً)، إلى إجراء مناظرة تلفزية قبيل الاستحقاق الانتخابي. وصدّروا دعوتهم بالقول "نحن شعب صنع الحرية (...)، ونسعى، اليوم، إلى بناء الديمقراطية (...)، والمناظرة من أهم مظاهر الديمقراطية (...). حان الوقت لنكون كعادتنا مثالاً، وهذه دعوة للمترشحين للدور الثاني للانتخابات الرئاسية (...) لدخول التاريخ وقبول المناظرة، والتونسيون هم الفيصل". وهذه الدعوة دالّة على أن الشأن السياسي أصبح مشغلاً شعبياً بامتياز بعد الثورة، وكف عن كونه شأناً نخبوياً، أو فعلاً من أفعال الخاصة، فقد انفتح المجال للمواطن التونسي للإدلاء برأيه في قضايا الشأن العام. وأصبح يطالب المتسابقين إلى الفوز بكرسي قصر قرطاج بالتناظر، باعتبار ذلك واجباً ديمقراطياً، وحقاً من حقوق الناخب على المتنافسين. ذلك أن المناظرة حدث تواصلي، ومن فنون الكلام، ومن أشكال الحوار الحضاري بالغ الأهمية في الديمقراطيات الحديثة، وهي فرصة للتعبير تجمع بين المتحاورين، فيبذل كل طرف جهده في الإبانة عن موقفه، ويستحضر أقطار البيان، وأسباب الحجاج ليثبت رجاحة رأيه، وتهافت غيره، وقصور نظره. والمراد توضيح رؤية الأنا والآخر للأشياء، والظواهر، والمشكلات، والقصد إيقاع التأثير في المتقبّل، واستمالة الناس على كيفٍ ما في شأن ما. ولا تخرج المناظرة الرئاسية عن هذا الإطار، باعتبارها مجالاً ركحياً، وفضاءً سياسياً، ومنبراً تعبيرياً، يتيح للمترشحين عرض برامجهما للجمهور، وكشف مواقفهما من مسائل تتصل بسياسة الناس، وتدبير شؤونهم وترتيب أحوالهم، وإدارة عمرانهم وضمان حقوقهم وصيانة حرياتهم، والحفاظ على اختلافهم وتأمين استقرارهم، وتوطيد علاقاتهم بشعوب العالم وثقافاته المتنوعة، فمن المهم بمكان أن يعرف المواطن صلاحيات الرئيس القادم، من منظور كل مترشح لتولي هذا المنصب، وأن يعرف مدى التزامه بالفصل بين السلطات القضائية والتنفيذية والتشريعية، وكيفية تمثّله العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ومدى وعيه بأهمية دعم مسار الانتقال نحو الديمقراطية، واحترام الدستور وترجمته فصوله التنويرية إلى واقع يعيشه الناس.
وعلى الرغم من أن قنوات تلفزيه عدّة، تونسية وعربية، عبّرت عن استعدادها لاحتضان المناظرة المنشودة بين الرجلين، فإن موقف المترشحين منها بدا متبايناً، فلئن رحّب منصف المرزوقي بالفكرة، ودعا، أكثر من مرة، خصمه إلى منازلته تلفزياً، فإنّ الباجي قائد السبسي بدا غير متحمس للأمر، واصفاً المناظرة بأنها "نطيح أكباش" لا يرى له موجباً، ولا يعتبره مفيداً لتونس في الوقت الراهن. وتعلّل بأن المرزوقي "متطرف"، لنعته عصر الدولة القامعة في تونس بعصر "الطاغوت"، وذهب إلى أن التناظر يطيح من مكانته، كما أنه لا يأمن من انفعال المرزوقي، وانزلاق الحوار إلى السباب وتبادل الشتائم. ومع أن السبسي عميد السياسيين التونسيين، وينتحي نحو الحبيب بورقيبة في مخاطبة الناس، جامعاً بين العربية الفصحى والعامية التونسية، وبين الجد والهزل، وبين القرآن الكريم والمأثور عن النبي، مراوحاً بين أسلوبي الحكواتي والديماغوجي، فإن تملّصه من قبول المناظرة جعل الملاحظين يفترقون في شأنه، فمنهم مَن أيّد مذهبه، معتبراً الرجل يريد تفادي أسباب تعميق الاستقطاب الثنائي، ويخشى من خوض غمار مغامرة لغوية غير مأمونة العواقب، ولم يتعوّد التونسيون ممارستها، ومنهم مَن رأى أن الباجي يمارس سياسة الهروب إلى الأمام، ويصادر على المناظرة، قبل أن يخوضها، ويحكم على خصمه أحكاماً معيارية، إنشائية بدل أن يواجهه، ويقارعه الحجة بالحجة، والبرنامج بالبرنامج، فالمناظرة فرصة للتداول في الشأن العام، وللتباري بالأفكار، لا للتناطح على طريقة "الأكباش". ويفسر الملاحظون موقف الباجي بأنه لم يجرّب، في سيرته السياسية، المواجهة المباشرة مع خصومه، فهو غالباً ما يواجه أتباعه، أو يكون الضيف الوحيد لبرنامج تلفزي، يحاوَر فيه وحده. وعلى خلاف ذلك، المرزوقي معروف بخبرته في المحاورة والمناورة، والمناظرة والحجاج والإقحام، وسبق له أن واجه كثيرين من خصومه تلفزياً في عصر الديكتاتورية في برنامج الاتجاه المعاكس، وغيره من برامج الفضائيات العربية، ويُخشى أن يغتنم المناظرة ليتفوّق على السبسي بلاغياً، أو برامجياً، ويُخشى أن يدغدغ ماضي الرجل في مهادنة دولة الاستبداد، ليبرز هو في موقع المناضل الحقوقي بامتياز.
والواقع أن المناظرة ضرورية، الآن وهنا، ذلك أن أسئلة تلافاها المترشحان في حملتيهما الانتخابيتين، ويمكن أن تكشف خلال المناظرة، من ذلك هل سيراجع المرزوقي سياسات الرئاسة الخارجية، خصوصاً ما اتصل منها بالملف السوري والعلاقات مع مصر؟ هل يقبل بلجوء "الإخوان المسلمين" إلى تونس؟ هل سيشكل هيئة للتحقيق في شبهة الفساد المالي في قصر الرئاسة؟ هل ينوي التخفيض في أجر الرئيس؟ ثم ماذا يعني السبسي بإعادة هيبة الدولة؟ هل يعني بذلك الارتفاع بالرئاسة إلى القداسة، وإحياء الدولة البوليسية؟ ما موقفه من الانقلاب في مصر؟ وما موقفه من القضية الفلسطينية؟ وما مصير مشروع العدالة الانتقالية في ظل حكمه؟ هل سيحاسب الظالمين وينصف المظلومين، أم أنّ الأمر خلاف ذلك؟ لماذا لا يقدم المرشح للرئاسة تقريراً طبياً في الكشف عن حالته الصحية؟ هل يتعهد الفائز بالرئاسة بالكشف عن أملاكه؟ أسئلة مسكوت عنها، لو تمت المناظرة أصبحت الإجابة عليها ممكنة.
أكتب هذه الأحرف، وأتذكر مناظرات تلفزية رئاسية تاريخية، مثل تلك التي جمعت فرانسوا هولاند بنيكولا ساركوزي، وتلك التي جمعت باراك أوباما بميت رومني. كانت مناظرات شيقة ومفيدة، أنارت الناخبين وأمتعت المشاهدين، وأسهمت في إرساخ تقاليد التنافس الديمقراطي على الحكم.
كان التونسيون سباقين في الثورة على الاستبداد، وفي إبداع ديمقراطية على غير مثال في العالم العربي، وفي صوغ دستور توافقي تقدمي، وفي التداول السلمي على السلطة، ومن حقهم، اليوم، أن يطالبوا بتدشين بادرة جديدة في التاريخ السياسي العربي، اسمها ضرورة المناظرة بين المترشحين للرئاسة، حتى يتبيّن الأمر للناخب والمنتخب والشاهد على السواء.