تونس.. المشروع التحديثي والدولة الوطنية

12 اغسطس 2018
+ الخط -
في الوقت الذي يتعرّض تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة في تونس، ولا يزال، لحملات ثلب وتشويه منظمة وممنهجة ضد أعضاء اللجنة، وضد كل صوت دافع عن التقرير، وصلت إلى هتك الأعراض والتكفير والتحريض على العنف، وفي الوقت الذي تؤكّد فيه القوى الوطنية والديمقراطية التونسية التزامها اللامشروط بالدفاع على الحريات الفردية والمساواة التامة والفعلية، وعدم فصلها عن الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لعموم المواطنين والمواطنات، وتعتقد أنّ "الحوار الهادئ والمسؤول" بين مختلف مكوّنات المجتمع التونسي ونخبه هو الطريق الوحيد لمعالجة إشكالات التقدّم الاجتماعي، وتطوير منظومة الحقوق والحريات في تونس، لتتناغم مع الدستور التونسي، والمنظومة الدّولية لحقوق الإنسان، يطالعنا وزير الثقافة التونسي السابق، المهدي مبروك، في مقالته في صحيفة العربي الجديد (4/8/2018)، وعنوانها "تونس.. الدولة والتحديث القسري"، باستعراض الحجج الإيديولوجية للموروث الديني من معارضي التقرير، لا سيما معارضة المؤسسة الدينية التقليدية، ممثلة بالجامعة الزيتونية، قديمها وجديدها، التي كشفت خفايا استراتيجيتها الباطنية المدعومة من تيارات الإسلام السياسي، على اختلاف تنوعاتها، وتعمل على تأجيج الاستعادة الثأرية للصراع بين المؤسسة الدينية والدولة العلمانية، وبين النخبة السياسية والإدارية الحاكمة الحاملة لواء التحديث والعلمنة والنخبة الزيتونية التقليدية، وهو صراع مجتمعي.
وبما أنّ ما جاء في التقرير ينسجم كليا مع المبادئ الدستورية، والدستورالتونسي عامة، الذي 
يُعدّ المعبّر الأول والأخير عن إرادة الشعب، وأقرّ مبدأ المساواة بين جميع المواطنين، بوصفه مبدأ دستوريًا أساسيًا، مثلما أقرّ جملة من الحقوق والحريات، ومنها حرية الضمير، فضلاً عن أن مجلة الأحوال الشخصية التونسية التي صدرت في نسختها الأولى في 13 أغسطس/ آب 1956، قبل صدور أول دستور لتونس المستقلة (1959)، قد احتوت على قوانين "ثورية" حقيقية، وهي أكثر تجذّرا وثوريةً في مجالات عدة من مقترحات اللجنة اليوم، فإنّ التحجّج بأنّ ما جاء في التقرير يهدّد الهوية مبنيٌّ على وهم، وعلى تعلّات غير موضوعية بالمرّة، فالهوية العربية والإسلامية لم تمنع، في لحظات تاريخية عديدة سابقة، أن تخط تونس لنفسها مسارًا خاصًا في مجال الإصلاحات القانونية، الرامية إلى إقرار مبادئ الحقوق والحريات والعدالة والمساواة والإنصاف، فضلا عن مبدأ علوية القانون.
ولعل النقطة المثارة في هذا الاعتراض من المؤسسة الدينية التقليدية على التقرير تتمثل في موضوع الهوية. وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نميز بين صيغتين أو رؤيتين للهوية: الأولى، كما تبنّتها الدولة الوطنية التونسية، وطرحها تقرير الحريات، فيرتبط لديها مفهوم الهوية بالمشروع الوطني الحداثي: أي بالفاعلية الإنسانية الحية، وبفكرة التاريخ والتغير ومفهوم التقدم. إنها هوية واقعية، وهي علاقة منطقية ومفهوم كلي، فكري، لكنها تحيل على التغير والتطور والصيرورة التاريخية، ومنطق الشكل ومفهوم التشكل، وتؤسس للحرية بما هي وعي الضرورة وللديمقراطية.
والرؤية الثانية، أي الماضوية للهوية، هي التي نجدها في الموروث الديني، وفي التراث و"الثقافة الشعبية"، فيتحول لديها مفهوم الهوية إلى مفهوم الجوهر الثابت والسرمدي. إنها الصيغة التقليدية أوالدينية للهوية التي ترفض الاختلاف والتعدّد، فمقولة الجماعة، أو مقولة الأمة أوالشعب أو الطبقة أوالحزب، نافية للإفرادية، لاختلاف الأفراد الحقيقي، للمغايرة، والتعدّد، أي نافية للواقعي الفعلي، ونافية للحرية، فضلاً عن أنها مقولات غير تاريخية أو لا تاريخية، بل جواهر وماهيات ومطلقات. تقيم هذه الصيغة للهوية التي تدافع عنها المؤسسة التقليدية في تونس الوثنية على الصعيد المعرفي، والاستبداد على الصعيد السياسي، ولعل في وقائع التاريخ العربي الإسلامي، القديم والحديث والمعاصر، ما يؤكد ذلك.
فالفكر الديني التقليدي الذي تتبنّاه المؤسسة الزيتونية في تونس، والجماعات التي تدور في فلكها، وكذلك بعض تيارات الإسلام السياسي الموجودة في الحكم، تفصل جوهر العرب والإسلام عن الواقع والتاريخ، وهذا الفصل هو من أبرز خصائصه. عند ذلك، نكون إزاء الهوية الفكرية والثقافية الدينية التي تعيش في التراث، وتكرّس الانغلاق، من "ثقافةٍ" دينيةٍ تعيد إنتاج الماضي بكل مشكلاته، وتتكيّف مع الانتهاك الاستعماري وشروط الهيمنة الإمبريالية الأميركية، ومع الصهيونية والعنصرية والرجعية العربية، ومع التأخر التاريخي والاستبداد السائدين في العالمين العربي والإسلامي، وتتغنّى مع ذلك بالخصوصية، وتروّج أطروحات معادية تماما للمشروع التحديثي والتنويري الذي بذلت فيه النخب التونسية، منذ أزيد من قرنين، جهودًا مضنية. وبذلك تكون هذه الهوية التقليدية ارتكاسًا قبيحًا وتعويضًا، لا معنى له عن الذل والامتهان والفرقة والتشتت والضعف.
لا يريد المجتمع التونسي المنفتح على الحداثة الغربية، بكل منطوياتها الفكرية والثقافية والسياسية، أن يظل سجينًا لعقدة الهوية، فهويته ليس ما كان عليه ذات يوم فحسب، بل ما هو عليه اليوم، وما يريد أن يكونه في المستقبل، فسؤال الهوية الذي تحدثت عنه، سواء بالسلب أو بالإيجاب، ليس له من جواب منطقي وتاريخي، إلا في المجتمع المدني الحديث، بوصفه مجتمع التعدّد والاختلاف والتعارض، ودولة الحق والقانون المبنيين على أسس ديمقراطية وإنسانية، فالمجتمع الذي يلغي حرية الأفراد واستقلالهم وذاتيتهم إنما يلغي حريته واستقلاله وذاتيّته، لأنّ إلغاء الفردي والخاص هو إلغاء للعام. وكما يقول المفكر الراحل، إلياس مرقص: إذا ما ألغينا حرية الأفراد، وأكدنا الهوية، لن يكون لدينا أي تطوّر، ولن يكون لدينا سوى "جوهر" وهمي للأمة، وعندئذ لا نكون إزاء مسألة الهوية، بل بالأحرى إزاء عقدة الهوية، والفرق كبير إلى ما لا نهاية بين مسألة الهوية وعقدة الهوية.. الهوية ذاتية حقيقية، ثقة بالذات، واستقلال فعلي، وحرية للإنسان، فردًا ومجتمعًا وأمةً.
غير أن ما هو ملفت أيضًا في مقال المهدي مبروك استعراض آراء لبعض النخب التونسية غير المحسوبة على الإسلاميين، والتي اعتبرت أن "التقرير يخطف الدولة، ويزجّها في أتون 
نزاعات عقائدية ومواضيع خلافية.. وأن التقرير يستحوذ على الدولة، ويمارس بها وصاية على المجتمع، في ضربٍ من التحديث القسري الذي اعتقدنا أن الثورة وضعت حدّا له، بحسب اعتقاده، وقد نشر هذا الموقف في نصٍّ مطولٍ في صحيفة يومية".
تسيطر مثل هذه الرؤية "نصف إسلامية - نصف حداثية" في بعض أوساط النخبة التونسية القريبة من الإسلام السياسي، والمتناقضة جذريًا مع الوثنية الإيديولوجية الماركسية والقومية، وتعتبر أيضًا أنّ التحديث الذي اضطلعت به الدولة الوطنية بعد الاستقلال هو بمنزلة "تحديث قسري".. فعلى نقيض مضمون حركة الاستقلال السياسي في الوطن العربي، الذي لم يفتح سيرورة ديمقراطية لبناء دولة عصرية، ومجتمع مدني حديث، أطلقت الدولة الوطنية التونسية الجديدة مشروعها العلماني، الواسع جداً في مجتمع عربي إسلامي، يهيمن عليه التأخر التاريخي. واضطلعت الدولة التونسية بإنجاز هذا المشروع العلماني الذي يتسم بنزعةٍ حداثيةٍ في مختلف مراحله، غير أن هذه النزعة الحداثية لم تكن كوعي مطابق للحداثة في مفهومها التاريخي، وبذلك أصبحت العلمانية في نطاق الممارسة السياسية للنخبة السياسية - الإدارية الوطنية، أحد مكونات الإيديولوجيا الوطنية الكلية.
لم تطالب الثورة التونسية، غير المكتملة في سنة 2011، بوضع حدٍّ لهذا "التحديث القسري"، كما يحلو للإسلام السياسي المراوغ في المسألة الديمقراطية، والحرية، أن يسمّيه، بل إن مسار الثورة التونسية وشعاراتها ومطالبها رسمت طريقاً واحداً يفرض نفسه بقوةٍ تاريخيةٍ، تصعب مقاومتها. طريق يؤدي، أو ينبغي أن يؤدي، إلى بناء دولة علمانية ديموقراطيّة تعدّدية، تحترم الحريات العامة والحريات الفردية، وتستند إلى قيم العدالة والمساواة للجميع.
E8457B4F-E384-4D2B-911B-58C7FA731472
توفيق المديني

كاتب وباحث تونسي، أصدر 21 كتاباً في السياسة والفكر والثقافة