إلا أن أياً من مظاهر الاحتفال لم تحدث داخل "النداء"، بل تركت تداعيات الحكومة آثاراً سياسية بالغة على الحزب ستنعكس بالتأكيد على مساراته القادمة، وصولاً إلى مؤتمره الأول الذي سينعقد بعد أشهر قليلة.
الهيئة التأسيسية لـ"نداء تونس" اجتمعت برئاسة محمد الناصر (رئيس البرلمان) وثمن على إثرها الحزب، وفقاً للبيان الصادر عن الاجتماع، "الثقة الكبيرة التي حظيت بها الحكومة"، لكنه أعرب "عن المفاجأة من السلوكات الشاذة وغير المنضبطة التي عملت ضد توجهات الحزب ومواقفه في هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها بلادنا، وقد بلغت حدّ التمرّد على قرار الهيئة التأسيسية الداعي لمنح الثقة للحكومة". وبحسب البيان فإن "الحزب إذ ينّدد بهذا السلوك ويدينه، فانه سيتخذ الإجراءات التنظيمية المناسبة بحق هؤلاء رغم محدودية عددهم".
وعاش الحزب، على امتداد الأسبوع الماضي وصولاً إلى صباح يوم المصادقة على الحكومة في البرلمان أول من أمس، أحداثاً متتالية كادت تعصف بِه وبتماسكه وتؤدي إلى انشقاقات وتصدعات بالغة في هياكله.
قبل شروع مجلس نواب الشعب في مناقشة رئيس الحكومة المكلف، الحبيب الصيد، عقد النائبان البارزان عن حزب "نداء تونس"، خميس قسيلة وعبد العزيز القطي، مؤتمراً صحافياً في بهو المجلس عبرا خلاله عن رفضهما للحكومة وطريقة تشكيلها لأنها "ليست حكومة "نداء تونس" وتضم في صفوفها بعض الأسماء المشبوهة. واعتبر قسيلة "أن هذه الحكومة لا طعم ولا رائحة لها، وأنه لا وجود لحزب "نداء تونس" الذي اختاره الشعب التونسي في المواقع السيادية والوزارات الاستراتيجية"، مشيراً إلى أن "هذه الحكومة لها تمثيل حزبي مشوّه وغير متوازن"، على حد قوله. ولمّح قسيلة إلى أنه كان من الأجدر على الأمين العام للحزب الطيب البكوش، أن يكون متجانساً في مواقفه وألا يدخل إلى الحكومة بعد الهجوم الذي قاده ضد حركة "النهضة".
وفيما أكد النائبان أنهما لم يعترضا على دخول "النهضة" إلى الحكومة، لكن التسميات شابها الكثير من المصالح الشخصية، وجّه القطي اتهاماً صريحاً لرئيس كتلة "نداء تونس"، محمد الفاضل بن عمران، بتعيين أحد أصدقائه في الحكومة نافياً عنه شرعية تقلده للمنصب. وزعم القطي أن وزير التربية في حكومة الصيد، ناجي جلول، الذي اختير عن "نداء تونس" قد "قدم فروض الولاء والطاعة لزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي من أجل الفوز بمنصب وزاري". كما اتهم المدير التنفيذي لـ "النداء" بوجمعة الرميلي، بأنه "ثبّت أصهاره في الحكومة". وفي تعليق له على المؤتمر الصحافي، اعتبر الرميلي أنه ضد مبدأ الانضباط الحزبي محملاً النائبين مسؤولية تبعاتها.
وسجلت المصادقة على الحكومة تحفظ ثمانية نواب عليها، من بينهم أربعة من "نداء تونس" فيما صوت نائباً آخر ضدها. وقال النائب عن دائرة العالم العربي وباقي دول العالم، عبد الرؤوف الماي، إنه ليس بإمكانه أن يمنح ثقته لحكومة الحبيب الصيد "لأن تشكيلتها لا تتطابق مع الوعود الانتخابية التي صرحت بها شخصياً من خلال برنامج "نداء تونس"، ولا تأخذ بعين الاعتبار البيان الذي انبثق عن المكتب التنفيذي، ولا سيما التشبث بتشكيل حكومة سياسية حزبية تعكس إرادة ناخبي "نداء تونس". وأضاف الماي "ليس بإمكاني أن أمنح ثقتي لهذه الحكومة، لأَنِّي لم أجد في برنامجها وتركيبتها ما يتجاوب مع ما ننتظره كتونسيين مقيمين بالخارج". وأشار إلى ضرورة أن تبقى النهضة في المعارضة. وهو نفس الموقف الذي تبناه الأمين العام لـ "لنداء"، الطيب البكوش، الذي قاد خلال الأسبوع الماضي حملة قوية للحيلولة من دون دخول النهضة إلى الحكومة. وهو ما دفع بعض نواب "نداء تونس" إلى اعتبار مواقف البكوش "انقلاباً على الحزب" وسعياً لتقسيمه.
بدورها، قالت النائبة عن الحزب بشرى بلحاج حميدة، إنها لم تجد برنامج "النداء" في برنامج الحكومة، معتبرة إياه "برنامجاً فضفاضاً يمكن سحبه على أي حزب". كما استنكرت استبعاد القيادية النسوية خديجة الشريف عن الحكومة بعد أن منحت حقيبة وزارة المرأة وتعويضها بممثلة عن حزب "آفاق تونس".
أما وزير الصحة في الحكومة الجديدة سعيد العايدي، الذي اختير عن "نداء تونس"، فأوضح في بيان نشره على صفحته في "فيسبوك" أنّه لن يرفض الحقيبة التي منحت له "التزاماً منه بروح المسؤولية"، ملمحاً إلى معارضته إشراك النهضة في الحكومة وتعيين وزير دولة في ذات الوزارة من الحركة.
في المقابل، اعتبر القيادي في "نداء تونس" والوزير المكلف بالعلاقات مع مجلس النواب، لزهر العكرمي، أن الخلافات بين أفراد داخل "نداء تونس" هي مرحلة طبيعية وليست بدعة سياسية عندما يمسك حزب يتمتع بالأغلبية بزمام السلطة، مؤكداً أن هذه المشاكل البسيطة ستزول بمجرد أن تنطلق الحكومة في عملها.
بدوره، أكد النائب مصطفى بن أحمد، أن الحزب خرج قوياً من كل الامتحانات التي واجهته، وأن عدد النواب المعترضين لا يشكل تأثيراً مهماً في مسيرة الحزب.
لكن السؤال الذي تطرحه قواعد "النداء" وقياداته الوسطى اليوم يتمثل في مدى قدرة الحزب على تجاوز هذه الجراحات العميقة التي خلفها امتحان الحكومة العسير، إذ يعتبر التيار الدستوري في "النداء" أن اليسار داخل الحزب هيمن على الحكومة وشكّلها كما يريد، وخصوصاً في نسختها الأولى. كما يعتبر التيار الدستوري أنه تمّ تهميشه مع أنه التيار الأكبر داخل الحزب، الذي حافظ على توازنه ومنع كل أشكال تفتته أثناء الانتخابات وحتى بعدها.
واعتبر القيادي البارز في الحزب ورجل الأعمال فوزي اللّومي، خلال تصريح صحافي، "أنّ الحكومة الجديدة أقصت القيادات الدستورية التي تعتبر الرافد الأساسي لما يُعرف بالآلة الانتخابية للنداء، والتي لولاها لما تمكّن الحزب من الحصول على المرتبة الأولى في الانتخابات الأخيرة". وأشار إلى أن هذه القيادات "غير موجودة اليوم، لا في الحكومة ولا في رئاسة الجمهوريّة"، في إشارة إلى أن أغلب مستشاري الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي من اليسار وكذلك وزراء الحكومة.
ويبدو أن هذا التململ في صفوف الدستوريين آخذ في التصاعد في الفترة الأخيرة، في حين يعتبر اليساريون أنهم منحوا الحزب "شرعية سياسية بعد الثورة"، ولولاهم لكان "النداء" مجرد نسخة تجمعية (نسبة إلى حزب التجمع الذي كان يقوده الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي) ستلقى نفس المصير الذي عرفته كل الأحزاب الدستورية الأخرى التي لم تفز بأي مقعد في البرلمان، باستثناء حزب المبادرة لكمال مرجان. هذه الآراء لم تعد تُتداول سرّاً، إنما أصبحت مجال النقاش بين الندائيين وستكون من أهم نقاط المنافسة في الفترة القادمة استعداداً للمؤتمر التأسيسي الذي يُفترض أن ينعقد في شهر يونيو/حزيران المقبل.
ويبدو أن السبسي، وهو مؤسس الحزب يكتفي حالياً بدور المراقب من بعيد لما يحدث، إذ لم يتدخل في صراعات الأسبوعين الأخيريْن بشكل مباشر باستثناء حسم مسألة مشاركة النهضة بعد محاولة البكوش خلال يوم الأحد الماضي. غير أن بعض الندائيين أكدوا لـ "العربي الجديد" أن ما حصل لن يمرّ بسهولة، وأن تغييرات حقيقية قد يشهدها الحزب على مستوى القيادة في الفترة المقبلة لإعادة ترتيب البيت من جديد، بعد العاصفة الكبيرة التي مرّت به.