تونس.. الاستثناء الواعد

16 مارس 2015
+ الخط -

ليست مواكبة الأحداث والتطورات في الوطن العربي، منذ اندلاع شرارة ما عُرف بـ"الربيع العربي"، أمراً سهلاً، فالأحداث تتوالى وتتسارع، إلى درجة أن كتابة أي تعليق عن حدث ما لا يلبث أن تفنده أحداث لاحقة، قبل أن يجف حبره. وكم من أمور طرأت منذ عام 2011 في تونس مهد الربيع العربي، ومصر وسورية وليبيا واليمن وغيرها. لكن، عوضاً عن أن يلبي هذا الربيع المطالب الشعبية بحياة أفضل تتميز بالعدالة الاجتماعية، وحرية المعتقد والتعبير، وتمكين المرأة في شتى المجالات، كما كان يدل عليه اسمه، نجدنا، اليوم، في وطن عربي منفرط العقد، متفكك الأواصر، متعدد الولاءات والانتماءات من طائفية ومذهبية وقبلية، بعد أن فُقدت صيغة المواطنة التي تجمع المواطنين، بدل أن يتفرقوا، وتُوحدهم بدلاً من أن يتباعدوا عن بعضهم.

وفي خضم هذا الواقع العربي الأليم، كانت تونس الاستثناء. فلماذا بقي الربيع التونسي ربيعاً واعداً؟

منذ أن أطاح التونسيون الرئيس السابق زين العابدين بن علي، والبلاد تسير بخطى متهاودة نحو الاستقرار والديمقراطية. وكان فوز حركة النهضة، المحظورة سابقاً، في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، واختيار المعارض السابق والناشط في مجال حقوق الإنسان، المنصف المرزوقي، رئيساً للبلاد، علامة واضحة على أن التونسيين راغبون في المضي في العملية الديمقراطية، وطي صفحة الماضي الأليم.

وعلى الرغم من فوزها في انتخابات المجلس التأسيسي عام 2011، إلا أن حركة النهضة الإسلامية تعايشت مع علمانية الدولة، إذ أدركت أن مثل هذا الخيار لا يمكن اتخاذه إلا بإجماع التونسيين، ما يشير إلى أن زمن الاستئثار بالسلطة في تونس قد يكون ولّى. ولعل تمسك التونسيين بالعلمانية ينبع من الجذور التي أرساها الرئيس السابق، الحبيب بورقيبة، ودوره في تمكين المرأة التونسية. وقد ساهم هذا النهج الذي كرسه بورقيبة في الدستور في إيجاد مجتمع مدني ناشط وحيوي ما زال حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من سنوات حكم بن علي الاستبدادي، فإنه يتمتع بمناعة قل نظيرها في العالم العربي.

في نهاية عام 2014، جاء فوز حزب نداء تونس في الانتخابات النيابية، ثم فوز الباجي قائد السبسي بالرئاسة على حساب المرزوقي، ليظهر وعي التونسيين بضرورة تداول السلطة. وما زالت هناك مسؤولية كبيرة على عاتق الأحزاب الليبرالية التونسية، لتوحيد صوتها والتركيز على المشترك فيما بينها، عوضاً عن التباين في وجهات النظر. لكن، من الحيوي أن يحافظوا على تعدديتهم الحزبية التي تغني الحياة السياسية في تونس، وتسهم في تحقيق مصلحة التونسيين.

مرت الثورة التونسية، أيضاً، بانتكاسات بعضها كانت مأسوية. فاغتيال أحد مؤسسي تيار الجبهة الشعبية، شكري بلعيد، والمنسق العام لحزب التيار الشعبي محمد البراهمي، علامة سوداء في تاريخ العملية الانتقالية في تونس. كما أن المطالب الرئيسية التي ثار من أجلها التونسيون، وهي الحرية، والكرامة، والعدالة، لم تكتمل بعد. فهناك نسبة كبيرة من الشعب ما زالت ترزح تحت نير الفقر، وآلاف الشباب ممن لا يجدون فرص العمل لتحصيل لقمة عيشهم.

من هنا، ندرك أن المهمة الجسيمة أمام القادة التونسيين هي تحقيق الرخاء والاستقرار في مجتمعهم، وأن يحافظوا، في الوقت نفسه، على المكاسب التي حققتها الثورة في الحرية والديمقراطية. فمن أولى مسؤوليات الحُكم والحُكام حماية المواطنين، وتقوية شعورهم بالانتماء إلى وطن لهم فيه حقوق، وعليهم واجبات تجاهه، لا أن يتم استغلالهم لمصلحة الحاكم أو النظام.

عند اندلاع ثورات الربيع العربي، نشأ أمل في الوطن العربي بأن التغيير القادم هو لمصلحة الشعوب، ولما فيه خيرها وتقدمها وازدهارها، فنالت تأييداً مبكراً. إلا أن تسلط بعض الحكام للبقاء في السلطة بأي ثمن، وانقلاب آخرين على العملية الديمقراطية، مهما كانت خسائر الوطن والمواطن، واستعداء شرائح واسعة من المواطنين الثائرين، فجّرت الشعور الفئوي والقبلي والطائفي والمذهبي، فتمزقت الأوطان وتشرذمت، وطغت أشكال الانتماءات على حساب الانتماء الوطني.

في الخلاصة، يمكن القول إن ما عُرف بالربيع العربي لم يكن بشكل عام ربيعاً، فالربيع فصل التجدد والنمو والفرح والابتهاج، بينما كان وما زال الربيع العربي في معظم الدول العربية فصلاً طويلاً من حروب عبثية أنتجت قتلاً ودماراً. ولكن، على الرغم من هذه الأجواء القاتمة التي تخيم على أمتنا، نرى بصيص أمل يلمع في الأفق التونسي، فلنأمل أن تستمر الحال على هذا المنوال، لعل المناطق الأخرى تقتدي بهذه التجربة، وتحقق لشعوبها الأمن والاستقرار اللذين تصبو هذه الشعوب إليهما.