أدركت حركة "النهضة" متأخرة أن حصولها على 52 مقعداً في البرلمان سيكلفها الكثير على المستوى السياسي. على الرغم من أنها الأولى في الترتيب داخل البرلمان، إلا أنها اكتشفت عملياً أنها تقف في موقعٍ ضعيف، وأن اختياراتها ستكون محدودة جداً. ليس أمام الحركة سوى ثلاثة سيناريوهات: الأول هو التحالف مع حزب "قلب تونس" الذي يملك 38 نائباً، لكنها في هذه الحال ستنقلب على وعودها الانتخابية بوضع يدها في يد حزب تتهمه بالفساد، وكانت أكدت أنها لن تتحالف معه أبداً. أما الاحتمال الثاني، فيتمثل في جمع ما عرف بالعائلة الثورية، على الرغم من خلافات الحركة مع كل طرف من مكونات هذه العائلة سياسياً أو أيديولوجياً، ليبقى احتمال توكيل المهمة إلى الرئيس قيس سعيّد.
تمثلت أول خطوة إلى الوراء اضطرت للذهاب إليها حركة "النهضة" بعد تكليفها رسمياً بتشكيل الحكومة، بالتخلي عن أن يكون رئيسها معروفاً بالانتماء إليها. ألزمتها الأحزاب الأخرى بالتنازل عن هذا الحق، ثم تم دفعها نحو التخلي عن وزارات السيادة، ثم فرض عليها الحبيب الجملي عدم الاقتراب من الوزارات ذات الصبغة الاقتصادية والمالية التي ستكون بالنسبة إليه المحرك الأساسي للحكومة. كما تنازلت عن مقترحها الخاص بتكوين حكومة مصغرة، وتراجعت أيضاً عن فكرة الأقطاب الحكومية التي كانت قد تمسكت بها حتى اللحظة الأخيرة. وقبلت أيضاً بحوالي 80 في المائة من مطالب حزب "التيار الديمقراطي" الخاصة بعدد من الوزارات الحساسة (وزارة العدل، واحتمال ضم الشرطة العدلية إلى جانب وزارة الإصلاح الإداري مع ضم الهيئات الرقابية، وأن يكون للتيار حق الفيتو بالنسبة لوزير الداخلية). أما حركة الشعب، فقد ألزمت "النهضة" بصياغة بيانٍ سياسي تلتزم به الأطراف المشاركة في الحكومة بما فيها الحركة، ويتضمن جملةً من التعهدات تخص مسائل عدة، من بينها العلاقة بمؤسسات التمويل الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كما يفترض أن تشمل هذه "الوثيقة المرجعية" مراجعة جوانب من السياسة الخارجية لتونس، بحكم كون حركة الشعب تتهم "النهضة" بالارتباط بما تسميه "محور قطر - تركيا".
هكذا فشلت "النهضة" في كسب ثقة من توقعت أن يكونوا حلفاءها الجدد. إذ بعد محادثات ماراثونية، اعتبر "التيار الديمقراطي" أن الحركة لا تصلح لكي تكون حليفاً جدياً. من جهتها، رفضت حركة "الشعب" الناصرية، المشاركة في حكومة لا تثق في نوايا الحزب المُكون لها، وتختلف جذرياً مع توجهاته الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية. حتى يوسف الشاهد، الذي توثقت علاقته بالغنوشي، وطالب حزبه على الرغم من صغر حجم تمثيله البرلماني بأربع وزارات، عاد أخيراً أحد كوادره ليصف حركة "النهضة" بكونها "مخاتلة"، وقرر المكتب السياسي لـ"تحيا تونس" عدم المشاركة في الحكومة. أما "ائتلاف الكرامة" المساند لـ"النهضة"، فابتعد عن دائرة المفاوضات بعد دخول حزب الشاهد كطرفٍ محتمل في تشكيل الحكومة، وشعر بوجود فيتو ضد مشاركته فيها، على الرغم من إعلانه منذ البداية بأنه لن يطالب بحقائب وزارية.
في المقابل، شنّت أطراف داخل الحركة حملةً شرسة ضد وزير الصحة السابق عبد اللطيف المكي، الذي انتقد بدوره الخيار السياسي الذي تبنته "النهضة" في تشكيل الحكومة، خصوصاً في ما يتعلق بحرمان الحركة من تولي رئاستها. وقد رشحه بعض أصدقائه داخل ما يسمى بـ"الجناح الإصلاحي" لرئاسة هذه الحكومة، لكن خصومه من النهضويين وقفوا سداً منيعاً في وجهه، خصوصاً أنه يقود حالياً تياراً يدفع نحو إجبار رئيس الحركة راشد الغنوشي على الاستقالة من رئاسة "النهضة"، بعدما أصبح غير قادر على الجمع بينها وبين رئاسة مجلس النواب. وسيكون عبد اللطيف المكي من بين المرشحين الأقوياء لخلافة الغنوشي خلال المؤتمر المقبل للحركة في حال انعقاده في موعده المحدد بعد أشهر قليلة.
كل ذلك جعل الجملي يتحدث عن الانتقال إلى الخطة "باء". وتتمثل هذه الخطة في تشكيل حكومة "كفاءات"، قد يكون من بين وزرائها شخصيات تجمعها صداقة ما بـ"قلب تونس"، لكنها لن تكون معروفة بانتمائها العضوي لهذا الحزب، وهو ما يسمح بالتصويت لهذه الحكومة بما لا يقل عن 120 صوتاً. حكومة هشة في مواجهة معارضة برلمانية قوية ومتعددة المواقع والتوجهات، قد تصمد وقد تسقط لدى أول امتحان، لكن في حالة الفشل ستتحمل حركة "النهضة" المسؤولية السياسية كاملة.