توجيه المعاني

04 اغسطس 2015
لوحة للفنان الفرنسي كلود مونيه
+ الخط -
لا يسع الناظر في تاريخ مهرجان أفينيون المسرحي العالمي، الذي أنشئ عام 1947، إلا الإعجاب بمسيرته، من مهرجان صغير لكن مسلّح بإرادة مديره، جان فيلار، إلى الاتساع الذي هو عليه اليوم. ومن الصحيح أن بدايات المهرجان قد تصلح كأمثولة رمزية Allégorie للعمل الثقافي، فبدايته ممزوجة بالشعر، إن جاز التعبير، إذ إن الشاعر الفرنسي الشهير، رينيه شار، هو الذي اقترح على فيلار، وكان ممثلًا ومخرجًا ومديرًا لفرقة مسرحية، أن يتقدّم إلى بلدية أفينيون لإقامة "أسبوع للفن المسرحي". وبعد تهيّب ورفض وأخذ وردّ، قرر فيلار الأخذ باقتراح الشاعر. لم يلقَ فيلار في البداية تعاونًا من البلدية، إلا أن النتائج الكارثية للحرب العالمية الثانية، وبشكل خاصّ الدمار الذي تعرّضت له المدينة في نيسان/ أبريل من عام 1944، وأثر ذلك الواضح في المجتمع الفرنسي، استوقف كلّه ساسة ذاك الزمان، لأخذ القرار بالموافقة على المشروع، نظرًا إلى تقاطعه مع مفهوم تضافر بناء الحجر والبشر معًا، لتجاوز الحرب ومآسيها وآثارها الفظيعة. والأمثولة، هنا، ليست في مديح الشاعر رينيه شار ولا مؤسس المهرجان ولا البلدية، بل في التأمّل بمسيرة العمل الثقافي الذي يبدأ من شيء فردي تمامًا، إلا أن "احتضانه" من قبل الدولة، لم يعنِ خضوعه لأجندة سياسية ما. فاستقلال العمل الثقافي إداريًا، كان المساحة التي لا يمكن المساومة عليها ضمن ثقافة وعقلية تجدان معانيَ لا حصر لها في العمل الثقافي. الاستقلال الإداري غير مطروح على بساط البحث بين المثقف والدولة أصلًا. وهو الأمر الأساسي في التطوّر الكبير الذي لحق بمهرجان أفينون.
تبعت دولنا العربية النموذج الغربي في "التمدّن"، واهتمّت بالمسرح، في عقود مضت بالطبع، وأقامت مهرجانات للفنون على أنواعها. ورغم "عراقة" بعضها، بسبب مرور الزمن لا الفحوى بالطبع أيضًا، إلا أنها لم تؤدِّ إلى "خلق" حالة ثقافية، تكون عادة متوقعة بعد تراكم التجارب والتبادل الثقافي. فالمهرجانات العربية تبدو بصورة عامّة وكأنها تمتح من "كاتالوغ" واحد. ويبدو تعاطي الإعلام أو، بصورة أدق، التغطية الإعلامية لها، غير خارجة تمامًا، إلا نادرًا، عن "كاتالوغ" إعلامي موحد أيضًا.

اقرأ أيضاً: كلّ شيء قابل للتسليع؟

إنها حالة استعصاء، ونوع من الدوران في دائرة مغلقة. وهي حالة لا تتعلّق أسبابها فقط بغياب الكفاءة، لكن بقلّة المنابر أيضًا، والأهم بـ "الحضور الكلي" للدولة، الذي يتمّ التعامل معه باعتباره أمرًا معطى ونافلًا من قبل الجميع. فالمبادرات الفردية، إن تشجّعت وتحقّقت، تصطدم فورًا بعقلية إمّا قمعية من قبل الدولة، أو اتكالية تمامًا على الدولة. كما لو أن الثقافة، أي المجال الذي يفترض أن ينفر من الأبيض والأسود أصلًا، لا تعني التنوع، وهو الأمر الخطير الذي يمنع التطوّر والتراكم.
وتجربة مهرجان أفينيون، نجحت بالضبط، من حيث هي ضبطت أسس التعاون الحقيقي بين الدولة، في البدايات خصوصًا، والمبادرة الفردية.
إلا أن أمرًا آخر، لا يمكن إغفاله في الحياة الثقافية العربية ومهرجاناتها، وكيف تدار "السياسة الثقافية" لا بمعناها الغربي الحديث، وإنما بمعناها العربي. فقد راج في بعض الدول العربية، غب الاستقلال، شيء غريب كُنهه : "التوجيه المعنوي".
ولطالما استوقفني تعبير مماثلٌ، وفككّته لغويًا من أجل سخرية خفيفة. كيف تُوجّه المعاني؟ ويستطيع المرء أن يتخيل سؤالًا مماثلًا موجَّهًا لشاعر ما، وبالطبع لا يمكن لأي خيال جامح أن يحصر أجوبة الشعراء في حالة مماثلة.

اقرأ أيضاً: ما يريده الجمهور؟

فالقائمون على الثقافة وشؤونها، لا شجونها بالطبع فهي حصّة المثقفين، "يتمتعون" بعلاقة مع الطبقة السياسية الحاكمة، - لنلطف كلمة نظام الحكم العربي - علاقة لها مسارب مباشرة وغير مباشرة، توجههم كي يوجهوا بدورهم الناس صوب معانٍ واقتراحات تناسب وجهة نظر النظام و"رؤيته" للأمور كلّها.
وتلك المسارب، على أنواعها، ليست إلا المملكة، التي تنمو فيها الرقابة على أنواعها، وتتناسل بدأب تارة وكيفما اتفق تارة أخرى. إلا أن الخطير في الأمر هو الأثر التراكمي للرقابة، الذي لا يفعل شيئًا إلا خنق الإبداع بدأب تارة وكيفما اتفق تارة أخرى.
بيد أن المثقفين، والكتّاب منهم خصوصًا، قد يجدون في بعض الأحيان، منافذ ومسارب، تخرجهم من هذا الأخطبوط المسمّى "التوجيه المعنوي"، لا كهيئة وإدارة كما نعلم، بل كمجاز عن حالتنا العربية الثقافية، فيبدعون نصوصًا، أو أفلامًا (فهي أيضًا تُكتب أولًا) خارج السرب الخاضع لـ "توجيه المعاني".

المساهمون