توجيه الدين ضد الدولة والمجتمع..بين سيد قطب وصالح سِرّية
منذ أواخر الخمسينيات، بدأت غلبة الفكر الراديكالي التكفيري على حركات الإسلام السياسي، فاتخذ نبيل البرعي في العام 1958 من أفكار ابن تيمية منهجا لحركته "تنظيم الجهاد"، وانطلقت فلسفة التفكير على يد سيد قطب وصالح سِرّية وشكري مصطفى. وبعد هزيمة حركة التحرر العربية، ممثلة بالناصرية، ومعها قوى اليسار، وتلك الموصوفة بالعلمانية، في عام 1967، والتي بدت هزيمة مزدوجة اجتماعية وعسكرية، بدأت حالة حادة من الاغتراب الاجتماعي، انطلقت من مصر، وتناسبت طرداً مع مضي الرئيس أنور السادات في مسارين، الانفتاح والصلح مع العدو الإسرائيلي.
في ظل التآكل المستمر للشرعية السياسية لنظام الحكم، الذي فتح باب المطالبة بالشرعية الدينية، شهدت فترة السبعينيات صعود حركات الرفض السياسي الإسلامي. رفض النظام الاجتماعي السياسي والاقتصادي والثقافي والخلقي القائم، والتطلع إلى إقامة دولة ومجتمع بديل هو المجتمع "الإسلامي الحقيقي"، كان أهم نقطة التقت عندها تيارات الإسلام السياسي، ليستمر الدين كأيديولوجيا في مواجهة الدولة والمجتمع. كما تبدلت الشعارات السياسية، وبعد أن كانت "الوحدة طريق التحرير"، أصبح "التحرير طريق الوحدة"، وبدأ الوعي الجمعي العربي، والفلسطيني خصوصاً، يدرك أن تلك الأنظمة باتت عاجزة عن المضي في معركة "البناء"، وعائقاً أمام معركة "التحرير". وهنا يبرز اسم الفلسطيني صالح عبد الله سِرّية قائد ما عرف بعملية "الفنية العسكرية".
يشوب سيرة سِرّية غموض ومغالطات. لذا، من الضروري إبراز ما خفي منها ومحاولة تصحيحها، معتمدين، بشكل رئيس، على شهادات بعض أقارب سِرّية الذين تواصل معهم كاتب هذه السطور مباشرة، وفي مقدمتهم أخته نظمية سِرّية، ومقارنتها بما ورد في مقابلة أجراها الصحفي عمرو عبد المنعم مع نجله أحمد.
بعد مقتل زوجها محمود سِرّية، موظف السكة الحديد في حيفا، تزوجت سورية أبو عابد من شقيقه عبد الله الذي كان صاحب دكان صغير في "إجزم" من قضاء حيفا، وأنجبت له ولدين، يوسف ثم صالح. وكانت سورية قد أنجبت من محمود ابنتين، هما رسمية ونظمية. لجأ صالح (1936-1976) مع أفراد عائلته في 1948 إلى العراق. التحق بكلية التربية في جامعة بغداد، خلافا لما تذكره مصادر عن التحاقه بكلية الشريعة، ونال درجة الماجستير عن أطروحته "تطوير التعليم الصناعي في العراق" (بغداد: دار الجاحظ، 1969)، والتي تعد من أوائل رسائل الماجستير التي تمنحها جامعة بغداد. تزوج من عراقية تدعى بشرى النعيمي، أنجبت له ست بنات وثلاثة ذكور. ومبكراً، بدأ إنتاجه الفكري بكتابه "بين الاتباع والتقليد" في 1956. وقد تأكدنا من الكتاب وصحة نسبه إلى صاحبه، بعثورنا على نسخة منه مفهرسة لدى "دار الكتب والوثائق الوطنية" العراقية. درس العلوم الشرعية على يد السلفي عبد الكريم الصاعقة، ثم محمد محمود الصواف، وانخرط مبكراً في العمل العسكري في صفوف الثورة الفلسطينية، مؤسساً مع رفاق له "جبهة التحرير الفلسطينية" في 1959، والتي انضمت لاحقاً إلى حركة فتح، وحافظ على علاقات وثيقة مع الراحل ياسر ع
رفات. انضم إلى "الإخوان المسلمين" في العراق، وكان قائداً في جناحها العسكري، وضابطا برتبة نقيب في "فوج التحرير الفلسطيني" الذي شكله الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم في 1961، والذي أصبح نواة للواء القادسية التابع لجيش التحرير الفلسطيني. أما حزب التحرير الإسلامي فلم يكن عضواً فيه كما يشاع، بل ربطته بمؤسسه وابن قريته، الشيخ تقي الدين النبهاني، علاقة متينة بحكم قرابة النسب بين الرجلين من جهة زوجة شقيقه يوسف.
باعتباره عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، حضر سِرّية اجتماعات القاهرة في 1968. وبعد إطاحة البعثيين عبد الرحمن عارف في 1968، وتورط التيار الإسلامي في محاولة اغتيال أحمد حسن البكر، خشي سِرّية من الاعتقال. لكن، بعد الكشف عن مخطط لاغتيال نائبه صدام حسين، تعرض فعليا للملاحقة، فغادر العراق إلى سورية، وبعد رفض السلطات السعودية استقباله، عاد إلى القاهرة في 1971، لينال درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس، عن أطروحته "تعليم العرب في إسرائيل" (بيروت: مركز الأبحاث الفلسطيني، 1973)، والتي بقيت مرجعاً مهماً طوال سنوات حول الموضوع. وهناك، أيضاً، حصل على مركز وظيفي رفيع في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "ألكسو" خبيراً تربوياً، ثم سكرتيراً أول، في إدارة التربية.
كان على سيد قطب أن يملأ الفراغ الفكري الذي أحدثه رحيل البنا، فتابع التنظير لفكرتي: "الحاكمية"، باعتبارها غاية بذاتها، و"الجماعة" باعتبارها الوسيلة. فرأى أن بناء الحضارة الإنسانية الحقيقية يتم حين تكون الحاكمية العليا في المجتمع لله وحده، عبر سيادة الشريعة الإلهية. فالمعركة بين المسلمين وخصومهم ليست سياسية ولا اقتصادية ولا عنصرية، بل هي، في حقيقتها، معركة عقيدة، كفر أو إيمان، جاهلية أو إسلام. فهدف الإسلام لم يكن يوما القومية، ولا العدالة الاجتماعية، ولا سيادة الأخلاق، بل قيام مجتمع مسلم يطبق القرآن فيه تطبيقا حرفيا. فالإسلام ليس نظرية مجردة، يعتنقها أفراد ضمن الكيان العضوي للمجتمع الجاهلي القائم فعلاً، فهؤلاء مضطرون، في نهاية الأمر، للاستجابة لمتطلبات هذا المجتمع العضوي، فيقدمون خدماتهم وخبراتهم بما يمده بعوامل البقاء، بدل أن تكون حركتهم لتقويض هذا المجتمع، من أجل إقامة المجتمع الإسلامي. لذا، لا بد من قيام "الجماعة" التي يعمل أعضاؤها عضوياً على توسيعها، تحت قيادة مستقلة عن قيادة المجتمع الجاهلي، وتعمل على إزالته.
في كتيّبه "رسالة الإيمان" (1973)، يحاول سِرّية تشخيص "الكفر المعاصر" الذي وقع فيه المسلمون (حاكمية غير الله)، والتصدي لهذه "الردة الجماعية". فيميز بين دار الإسلام التي تكون فيها كلمة الله هي العليا، ويحكم فيها بما أنزل الله، حتى لو كان كل سكانها كافرين، ودار الكفر التي تكون فيها كلمة الكفر هي العليا، ولا يحكم فيها بما أنزل الله، ولو كان كل سكانها مسلمين. وعليه، فإن الدولة القائمة في جميع بلاد الإسلام "كافرة"، وأما المجتمعات فهي "مجتمعات جاهلية". والجهاد ضد هذه الدولة فرض عين، تلكأت الحركات الإسلامية عن القيام به حتى الآن، خوفا من إراقة الدماء. لكن، وخلافاً للفكر السلفي، يرى سِرّية أن الإسلام لم يضع نظاماً محدداً للحكومة وسلطاتها، ولا تصوراً للعلاقة بين هذه السلطات، ولم ينص الإسلام على طريقة معينة في اختيار رئيس الدولة، حيث يفتح الإسلام المجال للتغير، وفق الزمان والظروف. فالمطلوب تطبيق ما ورد في الكتاب والسنة، وأي نظام يفعل ذلك فهو نظام إسلامي، فليست العبرة في التسمية، بل في التطبيق.
ومع أنه يرى أن خدمة الدولة الكافرة كفر، فإنه يجوز للمسلم أن يكون موظفاً، أو حتى رئيساً فيها، ويبقى مؤمنا كامل الإيمان، شرط أن يكون واضحاً في عقيدته، مصرحاً أنه يسعى، بوصوله إلى السلطة، لتحويلها إلى دولة إسلامية. وفي حال وجود جماعة إسلامية في ظل نظام ديمقراطي، جازت المشاركة بالانتخابات، ودخول البرلمان وتولي الوزارات. وقد أصبحت هذه الصيغة لاحقاً هي المهيمنة على أسلوب عمل مختلف الجماعات الإسلاموية. أما إذا كان العلن غير ممكن، يجوز للشخص أن يدخل في مختلف اختصاصات الدولة بأمر الجماعة، ويستغل منصبه لمساعدتها في الحصول على السلطة، أو التخفيف عنها في حال المحنة. وقد وجدت هذه الصيغة صداها عند يحيى هاشم الذي استغل منصبه وكيلاً للنيابة، لتشكيل تنظيم هدف إلى تحرير سِرّية ورفاقه من سجنهم، لكنه فشل.
بإعادة إنتاج راديكالية سيد قطب، وبدعوته لاستغلال السلطة بأي شكل، بهدف خدمة "الجماعة"، يضع سِرّية، لأول مرة، نهجاً عمليا انقلابياً لتحقيق أفكار سيد قطب.
بالاستناد إلى عدم قدرته على تكوين تنظيم والتحضير لتلك المحاولة الانقلابية، خلال فترة قصيرة، لا تتعدى ثلاث سنوات، يرى متابعون ارتباط سِرّية بأجهزة استخبارات خارجية. ففي كتابه "المخابرات الإسرائيلية"، يذكر ريتشارد ديكون أن الإسرائيليين علموا، من خلال تحرياتهم في صوفيا، أن سِرّية وضباطاً مصريين كانوا على صلة بمخابرات القذافي، وأنهم نقلوا ذلك إلى المصريين بطريقة غير مباشرة، ما أدى إلى اعتقال سِرّية مع 81 ضابطاً. لكن، باستثناء قدرة التنظيم، من خلال سِرّية نفسه، على اختراق المؤسسة العسكرية، وتجنيد عدد لا بأس به من الضباط، فإن الفشل الذريع للعملية، وسذاجة تخطيطها وأدواتها وطريقة تنفيذها، يجعلها في غنى عن أي دعم خارجي. أضف إلى ذلك أن المجموعة التي قادها سِرّية كانت قد تأسست مسبقاً على يد الشيخ محمد بسيوني الذي قرر، فجأة، لأسباب مجهولة، اعتزال العملين الدعوي والسياسي، وما قام به سِرّية هو إعادة هيكلتها وتوسيعها وتثقيفها، بما يتلاءم مع فكره الراديكالي.
إن أخذنا بالاعتبار، كما أكد ديكون، علم الأجهزة الأمنية بتحركات سِرّية، وتردد أفراد من التنظيم في المباشرة في التنفيذ، قبل موعد العملية بأيام، أو بساعات، بعد الاطلاع على تفاصيلها، ومنهم من تحول إلى شاهد في المحكمة، واستبدال المادة المنومة التي دست لحراس الكلية الفنية العسكرية بمادة مهدئة، ذلك كله يدفعنا إلى استنتاج مفاده بأن التنظيم كان مخترقاً أمنيا وسُمح له بالمضي قدماً، فكانت "الفنية العسكرية"، وعبر التضخيم الإعلامي، عنواناً استغله السادات، لإحكام قبضته على أجهزة الدولة، واستكمال إجهازه على بقايا الناصرية داخل مؤسساتها. فبذريعة التقصير الأمني، قام السادات بإعادة هيكلة أجهزته الأمنية والعسكرية. كما كانت تلك القضية ورقة ضغط في صراعه مع نظام القذافي، ورسالة سياسية، موجهة إلى الأميركيين والإسرائيليين، بضرورة حث الخطى نحو اتفاق سلام.
في 31/ 5/ 1975 حكم على سِرّية بالإعدام شنقا. ونفذ الحكم، في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 1976، بعد أن رفض عرضاً قدم له عبر جيهان السادات، بوساطة كويتية على الأرجح، نقلته إليه زوجته، وتضمّن تخفيف الحكم في مقابل الاعتذار، وطلب الاسترحام.