ويثير تهديد قيادة جبهة البوليساريو تساؤلات عن جديته ومراميه، ولا سيما بعد أن اتهمت الجبهة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بـ"التقاعس عن إيجاد حلّ للصراع الإقليمي"، معتبرةً في الرسالة التي وجهتها إلى غوتيريس أنّ عملية الأمم المتحدة للسلام في الصحراء قد أصيبت بـ"الشلل التام"، كما أنّ "التلكؤ" في تعيين مبعوث أممي جديد للصحراء بعد استقالة كوهلر "لم يفضِ إلا إلى زيادة حالة الشلل هذه". كما كان لافتاً إعلان الجبهة الانفصالية تشبّثها في الرسالة ذاتها بالقرار الذي اتخذته في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بشأن إعادة النظر في مشاركتها في عملية السلام التابعة للأمم المتحدة، مجددةً التأكيد على أنه "لا يمكنها الانخراط في أي عملية سياسية، أو مفاوضات"، بسبب ما يخلقه المغرب من "أمر واقع على الأرض"، حسب قولها.
ومنذ استقالة كوهلر لـ"دواعٍ صحية"، لم يغيّر مجلس الأمن من قراءته للوضع والمخرج السياسي لملف الصحراء، وهو ما بدا جلياً من خلال سعيه خلال الجلسة المغلقة التي عقدها، في إبريل/ نيسان الماضي، لإعادة الدينامية والزخم إلى العملية السياسية عبر إحياء آلية "الطاولات المستديرة"، التي كان راهن عليها كوهلر، لتحقيق اختراق في جدار نزاع عمره طويل بسبب تباعد وجهات النظر بين أطرافه، وخصوصاً بعد أن جدد المجلس التأكيد على المعايير التي حددها بوضوح في قراراته 2414 و2440 و2468 و2494 من أجل التوصل إلى حلّ نهائي للنزاع حول قضية الصحراء. واعتبر أعضاء مجلس الأمن أنه من أجل التوصل إلى هذا الحل لا يوجد بديل عن مسلسل الطاولات المستديرة، التي ضمت في ديسمبر/كانون الأول 2018 ومارس/آذار 2019 في جنيف، كلاً من المغرب والجزائر وموريتانيا و"البوليساريو"، واتفق المشاركون في أعقابها على الاجتماع مرة أخرى وفق الصيغة نفسها.
وعلى مدى أكثر من سنة، حاول كوهلر خلق معادلة جديدة تعتمد على المشاركة الفعلية لجميع الأطراف المعنية بالنزاع بعد سنوات من القطيعة، أي المغرب و"البوليساريو" ومعهما الجزائر وموريتانيا التي تشترك بحدود طويلة مع الصحراء. كما بذل جهوداً كبيرة لمنح الاتحادين الأوروبي والأفريقي دوراً أكبر في مسار التسوية الأممي، باعتبارهما معنيين بأمن واستقرار منطقة المغرب العربي والحوض المتوسطي.
وعلى الرغم من شغور منصب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى الصحراء، إلا أنّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس كان قد عبر، في تقرير قدمه في أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى مجلس الأمن، عن أمله في الحفاظ على "الزخم" السياسي الذي تمّ التعهّد به العام الماضي لإيجاد حلّ للنزاع بين المغرب وجبهة "البوليساريو"، على الرغم من عدم وجود مبعوث خاص مكلّف بهذا الملف.
وبينما دأبت جبهة "البوليساريو" منذ استقالة كوهلر على توجيه مراسلات متكررة للأمم المتحدة، مهددةً بالعودة إلى حمل السلاح تارة، والمطالبة بتعيين مبعوث جديد في أقرب وقت تارة أخرى، فيما لم تظهر الدبلوماسية المغربية أي استعجال بشأن تعيين مبعوث جديد، تبدو عودة قيادة الجبهة إلى لغة التهديد هادفة إلى تحقيق مآرب أخرى.
وفي الوقت الذي تدرك فيه "البوليساريو" أنّ الظرفية الدولية الحالية المتسمة بانشغال القوى الدولية بمكافحة جائحة كورونا وتداعياتها السلبية، وأنّ التعقيدات الاقليمية والدولية الراهنة لا تسمح بأي تغيير قد يفضي إلى زعزعة الأمن والسلم الدوليين، يرى مراقبون أنّ استعمال الجبهة من وقت إلى آخر لغة التهديد باللجوء إلى حمل السلاح أو الانسحاب من المسار الأممي، الذي أنتجه قرار وقف إطلاق النار في عام 1991، يعتبر مجرد محاولة لاستغلال ملف النزاع على المستوى الداخلي من أجل التنفيس وامتصاص الاحتقان واليأس الموجود داخل مخيمات تندوف (الخاضعة لسيطرة جبهة البوليساريو في الأراضي الجزائرية). وكذا صرف الأنظار عن المشاكل الداخلية التي باتت تعيشها الجبهة حالياً، في ظلّ تنامي الاحتجاجات وظهور إطار سياسي معارض مستقل يحمل اسم "صحراويين من أجل السلام"، تشكّل من فعاليات سياسية وعسكرية وقياديين سابقين في الجبهة ونشطاء حقوقيين.
وعلى امتداد السنوات الماضية، كشف الواقع أنّ "البوليساريو" تلجأ إلى التهديد، من خلال رسائل موجهة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أو الهيئات الدولية الموازية والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، حينما تشعر بالحصار ويشتد الخناق عليها دولياً وإقليمياً، كخيار تكتيكي للضغط على المغرب والمنتظم الدولي. ويبدو أنّ الأوضاع الراهنة تشكل فرصة مواتية للجبهة للتلويح بشكل أكبر بورقة الانسحاب من عملية السلام وإشعال فتيل الحرب بالمنطقة المغاربية، وممارسة الضغط بها من أجل تحريك المسار الأممي، خصوصاً في ظلّ الظروف الأمنية والسياسية التي تمرّ بها المنطقة جراء الأزمة الليبية وما تعيشه منطقة الساحل من مواجهة مع الجماعات الإرهابية.
لكن بالنسبة إلى مدير "مركز الصحراء وأفريقيا للدراسات الاستراتيجية" عبد الفتاح الفاتحي، فإنّ الجبهة "باتت ترى نفسها خارج مختلف الحسابات الدولية والإقليمية"، وأنّ "دفوعات أطروحتها الانفصالية لم تعد ذات أولوية في سلم اهتمامات الأمم المتحدة وباقي المنظمات الإقليمية والحقوقية"، مشيراً، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أنّ "هذا الوضع يشكل أساس توجيه رسالة احتجاج أقرب إلى استجداء منها إلى طلب مشروع إلى الأمم المتحدة بالإسراع بتعيين مبعوث أممي جديد إلى الصحراء".
وبحسب الفاتحي، فإنّ هذا التهديد "ليس بالجديد، إذ سبق للجبهة أن لجأت إليه، من دون أن تكون لها القدرة العملية على تنفيذه"، لافتاً إلى أنّ "البوليساريو سبق لها أن اقتنعت بفشل ادعاءات التهديد بالعودة إلى حمل السلاح في وجه المغرب".
وعبّر الفاتحي عن اعتقاده بأنّ ما تأمله الجبهة "هو إنقاذ ما تبقى من موقفها التفاوضي حول نزاع الصحراء، وأن يعاود مجلس الأمن إلى عقد جلسات دورية حول هذا النزاع حتى لا يطاولها النسيان"، مشيراً إلى أنّ "الرسائل التي اعتادت البوليساريو على بعثها لم تعد تحرك ساكناً لدى الأمم المتحدة، في ظلّ بقائها حبيسة مواقفها الراديكالية من نزاع الصحراء". وفي ظلّ الأوضاع الحالية، لا يُتوقّع، وفق الخبير المغربي نفسه، أن تلقى مثل هذه الرسائل أي اهتمام "طالما أن الجبهة لا تتفاعل بإيجاب مع التطورات الحاصلة في القرارات الأخيرة لمجلس الأمن الدولي".