لعلّ التصريح الذي خرج عن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أخيراً ونقلته وكالات الأنباء المختلفة في أوروبا، عن أن "قضية القرم (الأوكرانية) سؤال انتهى، وروسيا لن تشارك في أي نقاش حول هذه القضية"، تعبير عن "بدء الروس اللعب على حافة الهاوية"، وفقاً لما يقول خبراء في "الحرب الباردة". وضع شبه جزيرة القرم (التي ضمّتها روسيا في 2014) بالنسبة لفلاديمير بوتين يبدو "منتهياً"، وأن يأتي هذا التصريح من العاصمة اليونانية أثينا تحديداً، في جولة بوتين قبل أيام، ليس مجرد كلام من دون خلفية وعناية في اختيار التوقيت والجغرافيا".
بعض تصريحات بوتين صادمة للمتابعين وصحافة الغرب، فالتهديد الذي خرج به عن أن "روسيا ستكون مضطرة لاتخاذ خطوات مواجهة ضد الدرع الصاروخي الأميركي في أوروبا"، مع تهديد مبطن لكل من بولندا ورومانيا كـ"أهداف" عسكرية، ليس مجرد كلام بالنسبة للخبراء في الشأن الدفاعي في عدد من دول الشمال.
وعلى الرغم من أن نائب وزير الدفاع الأميركي، روبرت وورك، أكد أن "الدرع الصاروخي ليس مشروع دفاع مستقبلي ضد الصواريخ الروسية"، فإن بوتين غير مقتنع بأن تفعيل واشنطن، مطلع هذا الشهر، لدرعها الصاروخي في رومانيا، عبر تخصيص 800 مليون دولار، واعتبارها بأنه موجّه ضد الصواريخ الإيرانية، بالنسبة للرئيس الروسي فإن "المسألة الإيرانية انتهت".
ثمة مسائل تقلق روسيا من الخطوات الغربية، وبعضها تصل موسكو بإشارات شبه واضحة، فالرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو، كان حازماً بعيد وصول الطيارة، ناديا سافتشينكو، من السجون الروسية، إلى كييف، يوم الأربعاء. وقد قال في هذا الصدد، إن "بلاده سوف تستعيد شرق أوكرانيا الذي يسيطر عليه مؤيدو روسيا الانفصاليون، وكذلك شبه جزيرة القرم، مثلما أعدنا ناديا". قول تشتبه روسيا في أن خلفه مشروع ما يمتد من البلطيق شمالاً وحتى البلقان جنوباً.
وقد نقل الإعلام الروسي، الدائر في فلك الكرملين، ما يجري عن روسيا وحولها يختلف تماماً عن الواقع. وعلى عكس "برافدا" ذهبت "ديرشبيغل" الألمانية، و"إي يو أوبزرفر" البلجيكية، إلى حدّ نقل صورة أخرى مغايرة لما تتمنّاه "برافدا". ذلك لأن قادة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان، خرجوا بموقف واضح مفاده بأنه "ستتخذ إجراءات إضافية ومكلّفة لروسيا، إذا استمرت موسكو في سياساتها الحالية. ولن يقف الأمر عند حدود تمديد العقوبات والمقاطعة الحالية بل ستتسع". بالتالي ظهرت "ديرشبيغل" بشكل مغاير تماماً لـ"برافدا"، خصوصاً أن الحديث هنا يجري عن بيان متفق عليه بين قادة الدول السبع الكبار.
من هنا، يرى هؤلاء المهتمون بالشأن الروسي، أن "تصريحات رئيس الوزراء الروسي، ديمتري ميدفيديف، عن تمديد المقاطعة على الشركات الغربية، بالتزامن مع تصريحات بوتين المهدّدة صراحة لرومانيا وبولندا، مع تحركات مريبة عسكرية في البلقان وإجراء حلف شمال الأطلسي، يوم الجمعة، طلعات تدريبية كبيرة في أجواء الدول الإسكندنافية لساعات عديدة منذ الصباح، تعبّر عن توتر حقيقي لدى الكرملين".
في غضون ذلك، نقلت "رويترز"، مساء الجمعة، عن مصدر حكومي ألماني رفيع المستوى لم تُسمّه، قوله إن "روسيا لن تنضمّ إلى مجموعة السبع حالياً، وهي طردت مما كان يُسمّى مجموعة الثمانية بسبب ضمّ القرم. ولن تحضر قمماً تعقدها مجموعة السبع".
في المقابل، يبدو الروس منزعجين جداً من هذه العزلة، وقد ذهبت وكالة "سبوتنيك" الروسية، إلى حدّ القول إن "مجموعة السبع تؤيد التدخلات الروسية في حلّ المشاكل العالمية، خصوصاً رئيس الوزراء الياباني شينزو أبي، الذي شدّد على ضرورة الحوار مع روسيا".
ومثل "سبوتنيك" تُقدّم "برافدا" للشعب الروسي، وسط أنباء عن تذمر وخلافات تطاول النخب السياسية الروسية، رواية عن أن الدول الكبيرة غير قادرة على فعل شيء من دون روسيا. وتنقل "برافدا" عن دبلوماسي ألماني يُدعى، فولفانغ أسشينغ، رواية مختلفة عما يجري من تشنج في العلاقات الدولية، وهي أن "مجموعة السبع غير قادرة على تحمل مسؤولية الأزمات الدولية وحدها. لا في الأزمة الأوكرانية ولا في الصراع في سورية، يُمكن إيجاد حلول من دون روسيا. ولا يجب أن يقال أبداً، إن الباب لن يكون مفتوحاً لمشاركة روسيا".
الصورة القديمة، التي انتهت قبل ربع قرن، والمتعلقة بالحرب الباردة والتهديد الذي شكلته روسيا، تعود إلى ذاكرة الأوروبيين اليوم، بعد فترة من السلام والهدوء وانتهاء ما يسمى "الكتلة الشرقية" و"الكتلة الغربية". التهديد النووي يبرز أحياناً في موجات "الغضب" الروسي، حين يتمّ انتهاك أجواء دول مثل الدنمارك والسويد، رداً على ما تعتبره موسكو "استفزازاً". مع العلم أن تعبير "الاستفزاز" تستخدمه روسيا، في سياستها الخارجية، كتبرير لخطوات الذاهب نحو حافة الهاوية، في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط واليابان في آسيا.
السويد، الحيادية، قامت بعملية تصويت نادرة، يوم الأربعاء، وبأغلبية 291 صوتاً من أصل 349 صوتاً، حكم مجلس النواب السويدي (ريكسداغ) على التعاون مع حلف شمال الأطلسي، وفتح الأبواب أمام قواته "وقت الحرب ووقت السلم". صحيح أن أقصى اليسار الأوروبي يتهم الأطلسي بـ"الكذب" فيما يخص التهديد الروسي لأوروبا، حتى قبل ضم القرم وفق ما تقول صحافتهم، لكن التحالف السويدي مع الأطلسي وضغط "لوبيات" التسليح بتجديد الترسانة الحربية الجوية في الدنمارك، يُمكن أن يوصف بأنه "انتشار عسكري غربي من الشمال والشرق والجنوب الأوروبي"، يذهب بالقارة الأوروبية نحو سباق تسلح جديد. إلا أن خبراء يُفسّرون تغيّر الرأي العام الغربي تجاه الروس، منذ انتهاء الحرب الباردة قبل 25 سنة بناء على خمس نقاط.
النقطة الأولى، عادة لا يبقى في الديمقراطيات الغربية "زعيم دولة" فترة طويلة، خصوصاً أن بوتين ارتبط اسمه كرئيس وزراء في عام 1999 بالحرب في الشيشان. ومنذ أن تسلّم الرئاسة بعد بوريس يلتسين في عام 2000، جرى تشديد القبضة على روسيا، وكانت السياسات الغربية سلبية تجاه الخروق التي تمت وتراجع الديمقراطية الموعودة.
النقطة الثانية، للحرب في جورجيا نصيبها في الذاكرة، ففي عام 2008، وأثناء الألعاب الأولمبية الصيفية في الصين، اجتاح بوتين الجمهورية السوفييتية السابقة. وقد زرعت تلك الخطوة في العقل الأوروبي، فكرة أن روسيا مستعدة لاستخدام القوة بالقرب من دولهم. مرة أخرى كان الموقف الغربي سلبياً تجاه الخطوات الروسية، على الرغم من أن جورجيا كانت شريكة للاتحاد الأوروبي والأطلسي، وأرادت توثيق تلك العلاقات معهما.
النقطة الثالثة، أظهر ضمّ القرم ودعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا في 2014، للغرب، أن روسيا يمكنها بالقوة العسكرية تغيير الحدود الأوروبية. ومرة أخرى نظر الغرب إلى بوتين على أنه ديكتاتور يمنع الشعوب من التقارب مع دول الاتحاد الأوروبي، باستهداف الحركة المؤيدة لأوروبا في أوكرانيا ودعم رئيس أسقطته ثورة شعبية.
النقطة الرابعة، إن تهديد دول البلطيق والدول الإسكندنافية منذ عام 2014، أعاد الصورة إلى ما كانت عليه في أيام الحرب الباردة. ولم يتردد ذات يوم السفير الروسي في كوبنهاغن تيموراز راميشفيلي (مارس/ آذار 2015) من تهديد الدنمارك باعتبارها "هدفَ هجمات نووية متتالية". يعود السبب إلى أن كوبنهاغن دخلت الدرع الصاروخية، وبدأت تتعاون أكثر في حماية دول البلطيق وتصدّي طائراتها للطائرات الروسية، التي اخترقت المجال الجوي العام الماضي بين 40 و58 مرة في 2014، عدا عن الخروق فوق أجواء أوروبا والمستمرة حتى يومنا هذا.
النقطة الخامسة، فمتعلقة بسورية، إذ يرى الغربيون أن بوتين قام مرة أخرى بخداعهم حين أمر في سبتمبر/أيلول العام الماضي بالتدخل عسكرياً في سورية، والوقوف إلى جانب ما يراه الأوروبيون ديكتاتوراً في سورية (بشار الأسد). وبهذه الطريقة بدأ المختصون يأخذون بجدية كيف أن روسيا وبالقوة العسكرية والتدمير تريد أن تصبح قوة عظمى مرة ثانية.
البروفسور في السياسات الدولية بجامعة كوبنهاغن، أولا فيفر، "يتفهّم الحديث الروسي عن استفزازات الأطلسي من خلال الدرع الصاروخية، ونشر المزيد من القوات على حدود بلدهم". لكنه أيضاً يرى أن "الروس عرفوا كيف يتصرفون كتلميذ مزعج في الصف، إنهم يقومون بخرق كل القوانين وخلق فوضى. وهي استراتيجية تنجح في إعادة روسيا إلى الخريطة السياسية، من دون أن يكون هناك أطماع حقيقية بالتوسع خارج ما تعتبره روسيا مجالها الحيوي". ولهذا لا يرى فيفر أية إمكانية لأن تخاطر روسيا بمهاجمة دولة في حلف الأطلسي حالياً "لأنها تدرك ما ستؤدي إليه مثل تلك الخطوة من حرب ضخمة. والخشية من أن يتم اجتياح دولة أوروبية شرقية أمر فيه كثير من التضخيم".