تنميط وتسطيح وجهل بالواقع: الخيبة من تيشيني

27 مارس 2019
موتّي ـ كلاين ودونوف: خداع وكذب (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في الأعوام الأخيرة، بسبب خطورتها وتزايدها، رصد مخرجون عديدون انتشار ظواهر التطرّف والعنصرية والعنف، وأيضًا بروز الإسلام السياسي، في المجتمعات الغربية، بين أبناء الجاليات العربية المُهاجِرة، أو الأجيال الأولى والثانية منها، أو بين الغربيين أنفسهم. غالبية المُقاربات، إنْ لم تكن كلّها، ليست على المستوى المطلوب، بخصوص رصد الظاهرة، أو التغلغل في أعماقها، أو إبراز أبعادها، أو رسم شخصياتٍ ذات دوافع أو مُبرِّرات مُقنِعَة. المخرجون العرب ليسوا استثناءً. بعضهم حاول، لكنّ محاولته فاقدة المستوى المطلوب أيضًا. آخرها "ولدي" للتونسي محمد بن عطية. 

"وداعًا للّيل" (2019) للفرنسي أندره تيشيني ـ المعروض خارج المسابقة الرسمية في الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي" ـ جديد الأفلام الأوروبية التي تُقارب جانبًا من تلك الظواهر. المخرج نفسه أنجز سابقًا أعمالاً رائعة وعميقة، تناول فيها مشاكل الشباب في سنّ المراهقة، وقدَّم شخصيات عربية وجاليات عربية في فرنسا، كما تناول مجتمعات عربية، كالمغرب مثلاً. رغم ذلك، فإنّ "وداعًا للّيل" مُخيّب للآمال بمستوياته كلّها، إذْ لم يُقدِّم تشيني شخصياته المراهقة كما يجب، ولم يتمكّن من الإمساك بها بحِرَفية، كما في أفلام سابقة له. مقاربته موضوعًا عربيًا سطحيةٌ للغاية، كأنه يجهل تلك المنطقة كلّيًا.

أول مشكلة كامنةٌ في كتابة السيناريو وتطوير الموضوع، وهذه الأخيرة لتيشيني نفسه بالتعاون مع عامر علوان (السيناريو والحوار لتيشيني وليا ميسيوس). لا توجد فكرة، سطحية أو عميقة، عن أسبابٍ تدفع شباب غربيين إلى اعتناق فكر مُتطرّف أو جهادي، أو إلى الانضمام إلى "داعش" والسفر إلى سورية بالحماسة تلك. هذا منطبق على ألِكس (كاسي موتّي ـ كلاين)، الذي ـ بعد اعتناقه الإسلام بـ8 أشهر ـ يُخطئ في ممارسة الفرائض المطلوبة. ما تمكّن السيناريو من تحديده كسببٍ هو غرق والدته في حادث صيد، كانت حينها رفقة والده. غضب ألِكس لم يهدأ بعد مرور أعوام مديدة، مقاطعًا خلالها والده، الذي يلومه، محمِّلاً إياه مسؤولية الوفاة. بالإضافة إلى انكساره أمام نسيان والده الحادث، وبدء حياة جديدة مع امرأة أخرى أنجب منها إخوة له. أسباب كهذه لم يتوقّف عندها السيناريو أبدًا، بل تظهر في حوارات الشخصيات. أسباب لا تدفع الفرد إطلاقًا إلى اعتناق دين جديد، أو تبنّي التطرّف عقيدةً، ثم الرغبة في الجهاد، والتضحية بالذات، وانتفاء كلّ رهبة أو خشية من الموت. أرجع السيناريو سبب التحوّل الجذري في شخصية ألِكس إلى حبّه الكبير لرفيقة طفولته لِيلاَ (علياء عمامرة)، وهي شابّة مسلمة ذات أصل عربي.



بمقارنته مع أفلام تتناول تلك الظاهرة، أو مع أفلام لتيشيني نفسه، فإنّ "وداعًا للّيل" هو الأكثر سطحية وضعفًا. أحد المَشاهد الضعيفة، فنيًا ودراميًا، ذاك الذي يُبرز التناقض بين المجتمعات العربية والغربية في فهمهما للحياة. المشهد فَجّ في سذاجته، واستخدام المونتاج المتوازي أضعفه. فالأمر لا يتلخّص بطريقة الحياة التي تعيشها العائلة الفرنسية لألِكس، حيث الشراب والطعام والرقص والمرح دلالة على حبّ الحياة، بينما ألِكس ولِيْلاَ وغيرهما من رفاق الخلية الإرهابية يرتدون الخِمار والجلابيب، ويستمعون إلى دروس مُتشدّدة، ويخطّطون لعملية إرهابية أو للذهاب إلى الجهاد.

المشهد النمطي السابق، وغيره من مَشاهد "وداعًا للّيل"، وفي أفلام أخرى، يُشير إلى عدم فهم كبير وملحوظ، حتى لدى المثقّفين في الغرب، لطبيعة مشكلة العرب، وتركيبتهم الثقافية والنفسية، ونشأتهم في مجتمعاتهم أو خارجها، وعلاقتهم بالدين، والتديّن والحياة، وأسلوب مُمارسة هذا كلّه. ناهيك عن تفكيك الظاهرة المعقّدة والمركّبة نفسها، أي التطرّف، وأسباب بروزها في تلك المجتمعات تحديدًا، أو في بيئات معيّنة، وكيفية التعاطي معها ومواجهتها، وسبل علاجها. هذا كلّه أوصل أسبابًا ومبررات مغلوطة وسطحية ونمطية إلى المُشاهد الغربي، بينما المسألة أكبر وأعقد وأعمق من ذلك.

يعود "وداعًا للّيل" إلى بداية ربيع عام 2015، وتدور أحداثه في 5 أيام، من دون تحديد "لماذا تلك الأيام"، و"لماذا التذكير بها بين حين وآخر". مشاكل الفيلم عديدة، بدءًا بالسيناريو والتمثيل والإيقاع، وزاد منها ظهور تلك الأيام على الشاشة، ما لفت الانتباه إلى بطء الإيقاع، وتسطيح الدراما، ورداءة التمثيل، ونمطية كل شيء، وسهولة التكهّن بما سيحدث.
تمتلك مدام مورييل (كاترين دونوف، في أكثر أدوارها عاديّة منذ فترة طويلة) مزرعة لتربية الخيول والتدريب على امتطائها والاعتناء بها. ذات يوم، يزورها حفيدها ألِكس، ويمكث عندها أيامّا، ثم يودّعها، خادعًا إياها بالقول إنه سيسافر إلى كندا للدراسة والعمل. لكن لا عمل له، وهو توقّف عن الدراسة، ولا يُعرف مصدر دخله، ولا أين كان قبل ذهابه إلى المزرعة، التي يلتقي فيها لِيْلا، فيظهران معًا في حوار ساذج يُعبّران فيه عن حلمهما بالإنجاب، وبالاستشهاد والتمتّع بالجنّة. إلى عملها في المزرعة، لِيْلاَ مُمرّضة. سريعًا ينكشف سلوكها المتشدّد، إذْ ترفض رعاية الرجال المرضى، أو لمسهم. هناك بلال (ستيفان باك)، رفيقها في الجماعة وأحد قادتها، الذي يخطط لعملية إرهابية، ويحتاج إلى المال. فيسرق ألِكس المبلغ المطلوب من جدّته الغنية، وتبرِّر لِيْلاَ فعلته بالقول إنّ سرقة الكفار حلال وغنيمة. عندها، تتيقّن الجدّة، بعد شك وريبة، أن حفيدها في خطر، وتدرك أنه لن يسافر إلى كندا.

لإحداث قدر من التوازن بين الشخصيات (أحيانًا كثيرة تتخلخل المحاولة)، تبرز شخصيتان: يوسف (محمد جوهري) مدير المزرعة المسلم العربي، الذي يمثّل الإسلام السمح والمعتدل، والذي يدين ما قام به الحفيد، ورغبته في السفر، وأفعال "داعش"، نافيًا أن هذا من "صحيح الإسلام". وشخصية الجهادي التائب فؤاد (كامل لبرودي)، العائد مؤخرًا بعد أعوام قليلة أمضاها مع "داعش"، وهو بصدد إنهاء فترة المراقبة، بعد قضاء عقوبته. تستعين به الجدة لإقناع ألِكس بعدم السفر إلى سورية، لاعتقادها أن الحكاية المؤلمة لفؤاد مع "داعش" كفيلة لإقناعه وردعه وعودته إلى صوابه. لكن هذا كلّه لا يحدث، بل أن ألِكس يعتدي على فؤاد، ويكاد يقتله، فتضطر مورييل إلى التبليغ عنه.
المساهمون